-->

المرجع في علم نفس الإبداع

مقدمة المترجمين

     إن مـــوضــوع الإبــداع (Creativity) مــن أكــثر مـوضوعات عــلم النفس المعـرفي غموضا، حيث تكثر به المفاهيم المراوغة، والتي يصعب السيطرة عليها وإخضاعهــا للمنهـج العلمي ، كما يصعب معالجته وفقا لمدخل واحد ، أو نموذج نظري بعيـنه ، أو نــظرية محــددة  مهما كانت كفاءتها . ولذا فإن هذا الميدان سيــظل موضوعا للبـــحث العلمي الجاد علـي مـدي القرن الحادي و العشرين ، نظرا لأهميته الشديدة من ناحية ، ولحاجة الشعوب والدول النامية والمتقدمة له علي السواء من ناحية ثانية ، كما أن تــقدم الأمــم والشعـوب يُـقــاس – مـاديــا وأخلاقيا– بعدد الابتكارات والاختراعات والاكتشافات التي تنفع البشرية وتعمل علي سعادتها،  سواء أكانت هذه الابتكارات مذاهب وأفكار أم آلات وتقنيات ، من ناحية ثالثة وأخيرة .

مــن هــذا الــمنطلق ، قـمنا بــترجمة هــذا الــعمل العـلمي ” الثقافي ” الضخم، المتمثل في كتاب “المَصٌنف” أو المرجع في الإبداع ، الــذي حــٌرَره عــالم نـفس جـليل هــو”رو برت ستيرنبرج  Robert j. Strnberg” ، بــموافقة كــريمة ، ورعـاية أدبيـة ومــادية مــن المجلس الأعلى للثقافة ، أحــد مؤســسات التــنوير فــي وزارة الثقافة المصرية . قمـنا بهــذه الترجمة لهذا المصنف تحديدا ، لأنــه يمثل أشد وأفضل المحاولات العلمية إحاطة وتدقيقا فــي موضوع الإبداع . ونري أنه بالإضافة إلي كونــه سيمثل إضـافة علمية علي المستوي الكيفـي والكمي ، فإنه يَقٌدم مجموعة من الدروس ، ويعكس أوجه التقدم التي حدثت فـي هـذا الميدان، من حيث شمول النظرة ، والتعددية المنهجية ، وعمق المعالجة ،وتعدد عوامل التأثير والتأثر،   والموضوعية عند التقييم ، والتجرد عند إصدار الأحكام .

يتكون هـــذا المصنف من ستة أبواب ، ضَمٌت بين دفتيها اثنيْن وعشرين فصلا ، هـي : مفهوم الإبداع : وجهات علمية ، كتــبه روبـرت ستيرنبرج وتودلوبـــارت ، وتــاريخ الـبـحث في الإبداع الذي كتبه روبرت ألبرت ومارك رونكــو . ومنــحي القيــاس النفسي  فـي دراسة الإبــداع ، الذي كتبه جوناثان بلوكر وجوز يف رينزوللي ، ودراسـات الإبداع التجريبية الــذي وضــعه مــارك رو نكو وشــون أكودا ساكاموتو . ومنـهج الــحالة الـفردية ، ومنحـي الأنسـاق  التطورية الـــــذي كتبه هواردجروبر ودوريس والاش . ومنحي القياس الـــتاريخي الـذي كتبه ديــن كيث سيمونتون . والأسس الحيوية ( البيولوجية ) للإبداع الـذي وضعه كـولــين مـارتين دال . وتطور العقول المبدعة : التاريخ والآليات ، الذي كتبه تشارلز لومسدين . وارتـــــقاء الإبــداع الــذي كتبه ديفـيد فيلدمان . والمــعرفة الإبداعية الـــذي وضعه توماس وارد وستيفين سميـث ورونالد فينك . ومنحي دراسة الشخصية الإبداعية الذي كتبه هوارد جاردنر وأيما بوليكاسترو . والإبـــداع والتفكير الذي كتبه وايزبرج . والإبــداع والذكاء الذي وضعه رو برت ستيرنبرج وليندا أوهارا . والســـمات الشخصية والإبــداع العلمي والفني ، الذي كتبه فايست .والدافــعية والإبداع الذي وضعه ماري كولينز وتــريزا أمــابايل . وتطبيقات منحـي الأنساق فــي دراســـة الإبداع ، الذي وضعه ميهالي سكيزينتميهالي . والإبداع عبر الثقافات الــذي كتبه تودلوبـارت. والحاسوب والذكاء الاصطناعى الــذي وضعته مـــارجريت بـــودين . والإبــداع فــي السـيـاق المؤسسي الذي كتبه ويندي ويليامز ولانايانج . وتنمية الإبداع الذي ألَفٌه نيكرسون. والطفولة والإبداع ، الذي ألَفٌه ميشيل هاو . وأخيرا خمسون عاما علي دراسة الإبــداع ، الـــذي وضعه ريتشارد ماير .

وبنظرة فاحصة ومدققة ، نــجد أن الأســـلوب الــذي اتبعه المحرر فــي تحرير فصول هذا المصنف في الإبداع ، هـــو اخـتيار علماء متخصصين تخصصا دقيقا ، يكــتب كُــلٌ منهم في مجاله ، الأمر الذي نجم عنه حصول مجموعة من الفوائد ، وتحصيل أعــداد ضخمة من الأفكار والمعلومات بمجرد قراءتنا لهــذا المصنف المحــيط . كــما أن هناك مجموعة مـن  الدوافع هي التي حَــٌرضْتنا للقيام بترجمته ، أبرزها الآتي:

أولا: لفت نظر الباحثين والمفكرين والمثقفين والمبدعين والقراء( بصفة عامة )، إلي أن هذا المجال – الإبداع – يعد أحد أبرز الأمثلة التي تَجٌسد  مدي قدرة علم النفس الآن بتعدد مناهجه وطرق البحث فيه ، علي ارتياد أصعب المجالات ، وفحصها ودراستها بطريقة عـلمية تزيح جانبآ فكْر نظرية المــلكات ، ونظرية قــراءة الكــف، ونــظــرية تضـاريس الجمجمة،  وغيرها من النظريات البالية ، وما نتج عنها من أوهام وخرافات لازالت سائدة فــي كثـير مـن المجالات العلمية والفكرية والأدبية ، والعلم منها براء.

ثانيا: مدي الاستفادة من تعليماته ونظرياته في مجالات قد يتخيل القراء أنــه لايمكـن تطبيقها فيها ، مثل مجال الممارسة العيادية ( الكلينيكية ) ، في مجالات التدخل لأهداف تنمية مهارات وقدرات المرضي النفسيين وذوي الحاجات الخاصة بل والمتأخرين عقليا ، وفقا لنوع من التطويع الذكي لفروض هذه النظريات وقوانينها. وأبرز مثال في هــذا الصدد ، مـا عرضه هواردجروبر ودوريس والاش عــن دراسة الحالة الفردية وتتبع مراحلها العمرية ، بــما يقع

وعدم التمسك ببعضها إلي حد التعصب المقيت ، اعتمادا علي التحــيز المزاجي العاطـفي ، وليس اعتمادا علي التنفيذ العلمي لما يطرحه هذا المنحي النظري، ومدي الــفائدة المــرجوة منه . الدرس باختصار،إنه مادام لا يوجد حتى الآن نظرية عامة تَوجّه النظر والبحث العلمي ، ليس فقط في مجال العلوم الاجتماعية ، ولكن أيضا في علم النفس ، فيـجب أن يعي الباحثون – خاصة المبتدئون منهم – ضرورة القبول بما صَحّ علما علي محك الواقع المُعاش، وعــلي محك المنطق ، ورفض أي فروض طرحتها أية نظرية مهما ذاع صيتها وانتشر ، ما دامت لم تقبل الفحص والتفنيد، ولم يثبــت لها أية فــائدة في حياتنا الاجتماعية بجوانبها الســوية والمضطربة والشاذة . ” إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ” .

وما تأخر تقدم علم النفس كثيرًا، -وغيره من العلوم الاجتماعية – إلا بسبب تمسـك زمرة من المتخصصين فيـه ، وبعض باحثيه الكـبار والصغار منهم علي السواء بـبعض الأقـــوال الشائعة والنظريات العقيمة علميا ، وما تـــأخر بــحث مـوضوع الإبداع إلا بسبب شـــيوع السحر والشعوذة والاعتقاد بالإلهام الكهنوتي والوحي الذي يملي علي روح المبدع مــا يريد ، وانتشار هذه الــخرافات بــين دروبه ، ناهيك عـن اقترانه فــترة من الزمان بــالجنون والمرض العقلي ، ودعّم هـذه الاعتقادات الضالة ، أفكارا مضلة أخــري مــن قبــيل عــقدة أو ديب وعقدة إليــكترا ، وأضغاث الأحلام التي تكتب خلالها النظريات والـــروايات وقصـائد الشـعر وهـلم جـرا . إن طيلة عمـر أي عمل ليست أبدا دليلا علي نفاسته ولا فائدته ، و إلا مــا الفائدة التـي جنيناها مــن الســحر والشعوذة وشياطين الجن والإنس، وهي أطــول أفكار الكائنات البشرية ســـنا وأعتقها وأطعنها عمرا .

ثامنا وأخيرا : حَثـنا هــذا المصنف البــديع بضرورة الاهتمام بدراسات الخـيال بـكـل أنواعه ما عدا الخيال المريض الذي هو ضرب من ديمومة أحلام اليقظة المسيطرة علي الفرد ليله كنهاره ، في حَلّه وترحاله ، من دون واقع ملموس ، ولا تقدم محسوس ، وضرورة ربط الخيال بالواقع عملا علي تطوير هذا الواقع باستخدام آليات البحث والتدريب وبرامج التنمية ، والحدس والاستبصار ، والتفاكر ، سواء أكان ذلك في مجال الإبداع المنتج أم الإبداع الكامن ، فيما يراه جليفورد وتورانس وغيرهما كثيـــرون .

   وتتجلي أهــمية ترجمـتنا لهـذا الكتـاب ، في ضرورة التأكيد علي أن موضوع الإبداع لازال وسيظل بمثابة القلب ضـمن موضوعات علم النــفس المعرفي ، الذي طرحه علماء نفس الصيغة الـكلية ( الجشتالط ) فـي الثلاثينيات و الأربعينيات . وكان السـؤال الذي حفز  هؤلاء الباحثين ينطوي علي فهم طبيعة الحدس والاستبصار ؛ أي المجـال الذي تأتي منه الأفكار الإبداعية، ومع ذلك ضاع هذا التركيز على الاستبصار عندما اختار علم النفس المعرفي دقة منحي معالـجة المعلومات فــي الستينيات . ولــكن عـــلي الرغم من هذا التحول في الاهتمام ، ظل البحث في الإبداع يحتفظ بموطن قـدم في مـجال عــلم النـفس المعرفي ، حتى وإن كــان ذلــك الـقـدم صغيرا وغــير مستقر تماما . ويذكررونكـو (Runco) وألبرت (Albert) – علي ســبيل المثال في الفصل الثاني من هذا المرجع – أن حــوالي 0.01% من الكتابات الأخيرة في علم النفس هي التي تتعلق بالإبداع ، مع أن المنهج العلمي لم يستطع الإجابة عن أسئلتها . وهـذا هـو جوهر ما يراه نيكرسون – في الفصل العشرين من هذا المصنف – حيث يقول ما نصه : ” علي الرغم من أن الــباحثين في الإبداع قـد طرحوا أسئلة صعبة وعميقة ، فإنهم لم يحالفهم النجاح عموما في الإجــابة عنها. ويـري فيلدمان – فــي الفصل العاشر ” إن عـدد بحـوث الإبـداع قـد تزايد في العقدين الماضييـن لكـنها لازالت متخلفة كثيرا عما حققته الموضوعات الأخرى بصفة عامة في فروع علـم النفس الأخرى ، وهي لازالت ذات طابع انطباعي تكهني “.

زبدة الـقول من كـل ما سبق أنـه علي الرغم من كل الدوافع والـفوائد والدروس التي سقناها ، وعلي الرغـم مـن صـدور كتابات ضخمة في موضوع الإبداع ، وبحوث ودراسات بالآلاف ، فإن هذا الموضوع لازال يحتاج لمزيد من الاهتمام به، أكاديميا وتطبيقيا. ونـري أن التـحدي الشــديد للمجتمع المصري العلمي وغير العلمي ، شأنه شــأن المجتمعات المـــتقدمــة ، خــلال القــرن الحــادي و العشرين ، يمكن في وضع تعريف علمي واضح وأدق لمــفهوم الإبــداع ، واســتخدام مجموعة مــن مناهج البحث يمكنها نقل هذا الميدان بأسره من النطاق الانطباعي (التكهني) إلي النطاق العلمي التطبيقي ، ذلك لأن الأسئلة المطروحة قديما ، ووفقا للتعريف التقليدي للإبـداع فـي العلوم الاجتماعية ، علي أنـــه تكوين منتجات جديـــدة ونافعة ، لم يجْب عنها نهائيا ، وأهمها : هل الإبداع دالـة للمنتجات أم للعمليات أم للأشـخاص أم لكل هذا معا ؟ وهل الإبداع ظاهرة فردية أم جمعية ؟ وهل الإبداع شائع بيــن كــل الناس أم سمة نـــادرة لقلة منتقاة ؟ وهل الإبداع نشاط عام المجال وموحد الطابع في كل السياقات ، أم نــشاط محدد المجال يتـــوقف عــلي السياق موضع النظر ؟ وهل أفضل طريقة لفهم الإبداع ، النظر إليه كمجموعة من الخصال التي تتنوع بتــنوع الأشخاص ومــدي ملكيتهم لها أو الـنظر إليه كشىء فريد يتجلى في الفرد المبدع ؟ لابد من وضع تعريف دقيق للإبداع !!!

كذلك تحتاج بحوث الإبداع فـي المستقبل ، أن تقـوم على التعددية المنهجية عند الفحص والاستقراء ، والتعددية النظرية عـند التعميم والتنبؤ والتطبيق ، وأن تقوم علي أساس الاستخدام الإبداعي لمناهج البحث التـي تلتقي علي نظرية للإبداع قابلة للاختبار التجريبي ، ولكل من المناحي التقليدية الثلاثة ، القياس النفسي والمنحي التجريبي ومنحي تحليل السير الذاتية .

إن المطلوب هـو استخدام مناهج بحث متعددة تجمع بين الاحترام العلمي الذي تحظي به مناحي القياس النفسي والمناحي التجريبية وصدق منحي السير الـذاتية ، لأن المـناحي الجديدة – كالمنْحي الحيوي ، والمنحي الحاسوبي البنائي، والمنحي الســياقي الاجتماعي الثقافي – لم تتمكن بعد من تحقيق أي أثر يذكر علي مـجال البحث ، مع أنها تستطيع أن تقدم أدلة نافعة في المستقبل لحل كثير من مشكلات الإبداع ، وللإجــابة الحاسمة عن كثير من تساؤلاته ، شريطة التخلي عن النظرة الجزئية ، وأحــادية المنهج ، وسطحية المعالجة ، والتفكير الانطباعي ، ومعرفة أن منحي واحدا لن يستطيع – مهما أوتي من قوة – أن يقدم نظرية متكاملة لمجال الإبداع .

إن المطلوب هــو الــدمج المبدع الــذي تحتاجه المتطلبات الــدقيقة والفــريدة لبحوث الإبداع ولتعريف الإبداع من جديد بشكل مبدع . ” إن علماء الإبــداع أخـــفقوا وفـــشلوا فشلا ذريعا في وضع تعريف دقيق لمفهوم الإبداع ، ومن ثم فقد فشلت بحوث الإبداع فـي الإجابة عـن أسئلته الكبرى وحل كثير من مشكلاته ” .

ونقرر في النهاية أن هذا المصنف سيكون قـد حقق دورا تاريخيا ومهما إذا أثار الاهتمام مرة أخري بالإجابة عن الأسئلة الكبرى التى لازالت تهتم بكيفية إنتاج الناس لحلول إبداعية لكثير من المشكلات الحقيقية التي تـــواجه المجتمعات العربية بصفة عامة ، ومجتمعنا المصري بصفة خاصة .

وحفظا للأمانات والحـقـوق ، فـقد قام بــترجمة الفــصول الأول والثاني والثالث والرابع والرابع عشر والسابع عشر والثاني والعشرين ، وكتب مقدمة المترجمين الــدكــتور محمد نجيب أحمد الصبوة ، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة الـقاهرة وقام بـترجمة الفصول  الدكتور خالد محمد عبد المحسن بدر،  مدرس علم النفس الاجتماعي والشخصية . وقام بترجمة الفصول الدكتور أيمن فتحي عامر، مـدرس عـلم النفس المعرفى. وقام بترجمة الفصول الـدكتور فؤاد أبو المكارم مدرس علم النفس الفسيولوجي وجميعهم بجامعة القاهرة . والمرجو أن تكون الترجمة قد أصابت النص، وأن نكون قد وفقنا إلي تقديم عمل علمي وثقافي جــاد يفيد منه القارئ المثقف والمفكر والعالم والبــاحث على السواء .

والله من وراء القصد

المـترجمون