ومن النقد ما قتل

الفكرة الجديدة كالطفل الوليد كلاهما يحتاج إلي الدعم والرعاية والقبول حتي يصلا إلي الاكتمال والنضج ، فإن فشل الفرد في رعايتهم كان مصيرهما المحتوم هو الضعف أو التشويه أو الموت المبكر.

ووأد الأفكار في المهد عادة نمارسها في حياتنا اليومية بشكل متكرر ، مرة بدون وعي ومرات بقصد وتعمد. فيمارسها المديرون تجاه اقتراحات مرءوسيهم ، والأباء تجاه طموحات أبنائهم ، والمدرسون تجاه تساؤلات طلابهم ، والنقاد تجاه محاولات المبدعين للتحديث. والكل يفعل ذلك تحت مظلة النقد ، دون تمييز بين نقد يبني وآخر يهدم الأحلام.

ومن المثير للتأمل أن الفرد لا يمارس ذلك النوع من النقد تجاه أفكار الآخرين فقط بل يمارسها كذلك تجاه أفكاره. فتارة يعتذر عن فكرته قبل أن يطرحها علي الآخرين ، وتارة يعتذر عن سذاجتها بعد طرحها وتارة ثالثة يتجنب المبادأة بطرح ما يجول بخاطره من أفكار خشية التعرض للنقد.

والجهل بوظيفة النقد وأساليبه هو أحد الأسباب المباشرة في بقاء هذه العادة الرذيلة ، وهو ما جعل علماء النفس المعنيون بالإبداع من ناحية والمعنيون بالتخاطب الفعال بين الأفراد من ناحية أخري يؤكدون ضرورة أن يتعلم الفرد متي ينقد أفكاره وكيف ينقد أفكار غيره.

وأول ما يشيرون إليه من قواعد هو تعلم كيفية إرجاء النقد ، والفصل بين مرحلة إنتاج الأفكار والحلول للمشكلات ومرحلة تقييم هذه الحلول والمقترحات. فلا يجب أن نتسرع في الحكم علي أفكارنا أو أفكار غيرنا ، ففي المراحل الأولي لتوليد الحلول للمشكلات التي تواجهنا غالباً ما تكون الأفكار غامضة ، ” وهشة ” فإذا ما وجه إليها النقد ضاعت فرصة صقلها ، أو البناء عليها والإفادة منها ، فليس شرطاً أن تكون الفكرة نافعة في حد ذاتها ، أو لها فائدة عملية مباشرة حتي نستفيد منها ، فقد تكمن قيمتها في أنها تؤدي إلي تصور جديد أو مدخل غير معتاد في النظر إلي المشكلة أو أنها تنشط الذهن لإنتاج مزيد من الأفكار عبر عملية متواصلة من التداعي الحر. وتعلم إرجاء النقد له نتائجه الإيجابية علي القائم به من زوايا عديدة ، فممارسته ليست هدفاً في حد ذاتها ، ولكنها وسيلة لتكوين عادات عقلية جديدة كالتأمل ، وحسن الفهم ، وتحسين مهارات تجويد الأفكار.

أما القاعدة الثانية التي يبني عليها النقد البناء فتؤكد ضرورة التمييز بين نقد الفكرة ، وإصدار حكم تقييمي علي صاحبها. فهناك فرق بين أن تقول ” أنا لم تعجبني فكرتك أو لوحتك أو كتابك … إلخ ” وأن تقول ” ما تفعله شيء رديء ، فالقول الأول يسمح لصاحب الفكرة بأن يقلب النظر فيما قيل ، مع احتفاظه بمرجعه الخاص للتقييم ، وبالتالي لن يتوقف عن تجويد فكرته وتعديلها ، بينما القول الثاني يضع صاحب الفكرة في موقف المدافع عن نفسه ، ويستثير لديه مشاعر عدائية تجاه محدثه ، تجعله يفشل في الاستفادة من النقد الموجه لفكرته ، كما يفشل في تطويرها أو تحسينها ، ويزداد الموقف تعقيداً إذا ما كان محدثه أعلي منه مكانة.

وتؤكد القاعدة الثالثة للنقد البناء ضرورة تركيز الفرد عند نقده للأفكار الجديدة علي ما هو إيجابي فيها بدلاً من ابراز سلبياتها. فلا تخلو أية فكرة – مهما كانت ساذجة أو تافهة – من جوانب إيجابية ، أو من قيمة يمكن الاستفادة منها ، فهناك دائماً معني أو مغزي يقصده صاحب الفكرة ، فإن اساء التعبير عنه فعلي المتلقي أن يعينه علي استشفاف المعني الكامن وراء أقواله فهذا أفضل كثيراً من رفض ما يطرح من أفكار دون تمحيص كافي.

ويؤدي حسن الإنصات – في حالة المناقشات الجماعية – إلي إمكان تحقيق القواعد السابقة للتواصل الفعال لما يتيحه من فرص عديدة لفهم فكرة الآخر قبل الحكم عليها. فالمغالاة في الدفاع عن صورة الذات ، والخوف من التعبير عن الرأي ، والانفعال الزائد ، كلها مظاهر لخشية الفرد أن يساء فهمه ، أو أن يوجه إليه النقد قبل استيعاب مقاصده ووجهة نظره. وإذا حللنا كثيراً من المناقشات التي نشهدها في حياتنا اليومية نجد ” أن الأفراد يتحدثون خلالها إلي بعضهم بعضاً بدلاً من أن يتحدثوا مع بعضهم البعض “. فيستمع الفرد إلي نفسه أكثر مما يستمع إلي محدثه. وغالباً ما ينتهي النقاش بالفشل في تحقيق أهدافه ، خاصة إذا كان الهدف هو الوصول إلي حلول لمشكلة ما. وبالتالي تحتاج مهارة الإنصات ، كغيرها من المهارات ، إلي التدرب عليها ، والأهتمام بصقلها ، علي نحو ما يحدث من اهتمام بطلاقة الحديث ولباقة التعبير.

وأخيراً ، إن ما نسعي إلي تأكيده هنا : هو ضرورة العناية بالأفكار الوليدة ، واتاحة الفرصة لها كي تكتمل وتنضج مسترشدين لتحقيق ذلك باستراتيجيات من قبيل إرجاء النقد ، وتوجيه هذا النقد إلي الأفكار لا إلي أصحابها مع السعي إلي تحسين هذه الأفكار لا إلي رفضها. وهو ما يضمن لنا تحقيق الحد الأدني من متطلبات التفكير الحر الفعال ، والحد الأدني من احترام أفكارنا وأفكار من حولنا. فالأفكار ثروة لا يقدرها إلا الشخص الواعي والمجتمع المتحضر ، وإهدارها هو نوع من القتل المستتر لحقنا في الإبداع والتقدم.