وقود الصراع أنا أقارن إذن أنا موجود
شجرة المقارنة ، شجرة كبيرة ، زرعها الإنسان منذ أن هبط إلي الأرض. وعن طريقها عرف ذاته ، وعرف حقيقة وجوده. فعندما قارن بين الألوان عرف الأبيض من الأسود ، وعندما قارن بين الأفعال عرف الخير من الشر ، والحب من الكره ، والسعادة من التعاسة. وعندما قارن نفسه بغيره من الكائنات المحيطة به عرف إمكاناته ، واستدل من ذلك علي أنه موجود.
وقد جني الإنسان من شجرة المقارنة ثماراً عديدة ، بعضها ثمار طيبة ، مثل : الدافعية للعمل ، والمنافسة ، والسعي للانجاز وتحقيق الذات ، كما جني منها ثماراً أخري خبيثة مثل الغرور ، والغيرة ، والحقد. وعن الثمار الخبيثة ودورها في إفساد حياتنا الاجتماعية يدور حديثنا في هذا المقال.
يتولد الغرور عندما يقارن الشخص نفسه بالآخرين ثم يحكم – من وجهة نظره – علي هذه المقارنة بأنها في صالحة ، فإذا ما صاحب هذا الحكم اعتقاده في دوام تفوقه علي الآخرين ، تبدأ إشارات وقوعه في راثن الغرور.
وتتولد الغيرة أيضاً كنتيجة مباشرة للمقارنة ، ولكن في هذه المرة يحكم الفرد بأنه أفضل من الآخرين ورغم ذلك فهو لا ينال ما يستحق من تقدير مقارنة بمن هم أقل منه كفاءة ، وعندئذ تشتغل في صدره نيران الغيرة الحارقة.
أما الحقد فهو الثمرة الثالثة التي تسقط علي الآمنين من شجرة المقارنة المتفرعة ، فيتولد الحقد نتيجة شعور الفرد بالعجز عن أن يؤدي أفضل من الآخرين أو أن يمتلك مثل ما يمتلكون وبالتالي فإنه يمتليء بالغضب الكامن ، الذي يحرقه ، ثم يحرق به غيره.
ويقع المربون في أخطاء جسيمه عندما يسيئون أستخدام آلية المقارنة بالطريقة السليمة ، فيؤدي ذلك إلي نقل عدوي المقارنة إلي أبنائهم ، فالغيرة والحقد والغرور هي نتاج الأستخدام السيء لآلية المقارنة. فعندما يقارن الآباء بين الأبناء علي مسمع منهم ، فإنهم يتيحون الفرصة لإنضاج ثمرة الغيرة ، وعندما يثيبون الفاشل ! ويبخسون حق الناجح ! فإنهم ينضجون ثمرة الحقد لطرف ، والغرور والتكبر للطرف الآخر.
ويعقد الغاضب والحاقد ، والمغرور والغيور مقارناتهم غالباً علي أسس انفعالية ، ولا يحتكمون في ذلك إلي المنطق ، أو مقتضيات الواقع.
خذ مثلاً نماذج من الحوارات الغاضبة التي تدار بين الأزواج فستجدها تمتليء بكلمات المقارنة الشائكة مثل : ” اشمعني أنا فعلت مع أهلك كذا وأنت فعلت مع أهلي كذا ” ، اشمعني جيراننا ( أو أصدقاءنا ، أو زملاءنا ) اشتروا كذا ونحن لم نشتريه : ” اشمعني أنا اللي ابدأ بالكلام الحلو وأنت لأ ” ، ” قارن بين مستوانا في كذا ومستوي غيرنا في كذا ” .. إلخ. قد تضرب هذه الأمثلة بغرض التوضيح ، لكن من يطرحها غالباً لا يكتفي بالتوضيح بل يمتد إلي النيل من الآخر. والمنطق يقتضي أن يدار الحوار حول الإجابة عن أسئلة مثل : هل يجوز التعامل مع الأهل بطريقة لا تليق بمكانتهم ؟ ، أو هل نحن في حاجة إلي شراء الشيء الفلاني أم لا ؟ ، أو ما الذي يعوق تحسين مستوانا المعيشي ؟ أو لماذا لا نتبادل معاً التعبير عن المشاعر الجميلة ؟.
هذا عن الحوارات الغاضبة أما حوارات الحقد والغيرة ، فهي تكون أشد قسوة فهي قد تمتد إلي الدعوة إلي نفي الآخر وإزالته من الوجود.
والمثير للدهشة أن إساءة أستخدام آلية المقارنة لا تقتصر علي الأفراد فقط ، بل إنها قد تظهر كذلك لدي الجماعات والحكومات ، وهي هنا تستخدم للتضليل ، أو للتنصل من المسئولية ، فتستخدمها الحكومات لتبرير أخطائها أو لتضخيم إنجاز تافه قامت به ، فعندما ينتقد الرأي العام أو نواب الشعب فشل سياسة الحكومة في مواجهة مشكلات معينة مثل : البطالة أو الفقر أو البلطجة أو غير ذلك من مشكلات ، تجد المسئولين علي الفور يبتعدون عن مناقشة المشكلة موضع السؤال ، ويبدأون في المقارنة بين البلطجة هنا والبلطجة في حواري إيطاليا ، وأزقة كولومبيا ، وبين لصوص العالم الثالث مقارنة ” بمافيا ” أمريكا الجنوبية والشمالية ، ضاربين بعرض الحائط الفروق بين الثقافات والشعوب في الظروف والدوافع التي تؤدي إلي تلك الظواهر. وفي بعض الأحيان لا يكتفي المسئول الكبير عن المقارنة ” العرضية ” بين دولته والدول الأخري ، بل يمتد إلي المقارنة ” الطولية ” فيقارن بين البلطجة في عصره والبلطجة في عصر من سبقه من المسئولين ، ومن سيأتوا بعده. وغالباً تكون المقارنة علي أساس إحصائي بحت فيقارنون بين عدد الجرائم هنا بعددها هناك ، فإذا ما تساءل المواطن العادي لماذا لا تتخذ الإجراءات المناسبة لمعالجة المشكلة سواء هنا أو هناك لا يجد إجابة واضحة بين زحام الأرقام والإحصاءات والمقارنات.
وقد يكون مقبولاً أن ينتشر سلوك المقارنة بين الأطفال ، حين تكون ” أنا ” الطفل غير مكتملة ، وتبحث عن أي شيء يميزها عن الآخرين ، ولكن عندما ينتشر هذا الفعل بين الكبار ، فإنه يكون دليلاً علي عدم النضج ، ودليلاً علي فشل المؤسسات الاجتماعية في توفير مناخ صحي يتعايش في ظله الأفراد ونقصد بالمناخ الصحي هنا المناخ الذي يسود فيه الحب المتعقل الذي يذيب ثلوج الغرور ، ويفتح لماء التفوق قنوات ؛ تروي حقول الآخرين ؛ بدلاً من جعلها تتجمد في مكانها ؛ وتمنع مرور غيرها من القطرات الباحثة عن مجري للحياة. وهو المناخ الذي يقتلع فيه فأس العدل نبت الغيرة الشيطاني من قلوب المتنازعين ، فيسود العدل في توزيع المشاعر ، والرعاية ، وفي توزيع الأموال والممتلكات. وهو المناخ الذي يرفع فيه الأمان دروعه في وجه الشرر المتاطير من نيران الحقد.
إننا في حاجة إلي الحب والعدل والأمان حتي نجني من شجرة المقارنة ثمارها الطيبة ، كما نحتاج إلي المنطق والعقل والتفكير حتي نزيل ثمار المقارنة الخبيثة. وبالتالي نحن في حاجة إلي إسقاط شعار ” أنا أقارن إذاً أنا موجود ” الذي بدأ يستشري في حياتنا اليومية ، حتي لا نهدر احلامنا في توافه الأمور.