من أدبيات علم اللوع (2) أسلوب حياة رجل البيزنس

أوضحنا في المقال السابق ان مصطلح ” بيزنسمان ” أصبح لا ينطبق فقط علي رجال الأعمال ، ممن يزاولون مختلف المهن التجارية ، بل إنه أمتد وأتسع ، وأصبحت دائرته تبتلع كل يوم مهنة جديدة ، لها مكانتها ، ورسالتها السامية. فشاع اليوم بين أصحاب مختلف المهن من يمارس عمله بأسلوب البيزنس. فأصبح هناك المدرس البيزنسمان ، الذي يغيب عن منزله طوال اليوم ، ليبيع العلم في منازل التلاميذ – فما يعرف تأدباً بأسم الدروس الخصوصية – رافعاً شعار العلم يساوي فلوس. وإلي جوار هذا يقف الطبيب البيزنسمان ، الذي يزيد من أجره الكشف ( الفيزيته ) أملاً في رفع قامته بين أقرانه في سوق الطب. وهناك كذلك المحامي البيزنسمان ، الذي لا يتواني عن الدفاع عن أي متهم طالما أنه سيدفع ، ولا يستند هنا في دفاعه إلي ضميره الإنساني بل إلي ضميره التجاري ، الذي يقيم الأمور في ضوء المنفعة المباشرة. ويستطيع القاريء الكريم أن يستدعي إلي ذهنه صوراً أخري لمهن أخري بدأت كلمة بيزنس تلصق بها ، مثل البيزنس ضابط ، والبيزنس ناقد ، والبيزنس عالم ، فضلاً عن المرأة الحديدية صاحبة لقلب ” البيزنس وومن ( Woman ).

وكما حاولنا في المقال السابق أن نحذر من تسرب أخلاق البيزنس إلي ضمائرنا ، نحاول في المقال الراهن ، أن نحلل أسلوب حياة رجل الأعمال ، لنحدد لمن يخطو خطواته الأولي علي هذا الطريق ، أي أرض سوف يحط عليها قدمه ، وأي الدروب سوف يسلكها.

ونقصد بأسلوب الحياة هنا ” الطريقة التي يحيا بها الأفراد ، والعادات اليومية التي يمارسونها والنشاطات التي يزاولونها أثناء تفاعلهم في سياقات الحياة المختلفة : الأسرية ، والمهنية ، والتعليمية ، فضلاً عن النشاطات التي تشغل اهتمامهم في أوقات فراغهم “.

ومن الوهلة الأولي نستطيع أن نتبين أن الضغوط ، ومختلف صور المشقة ، هي أكثر ما يسم حياة رجال الأعمال. فمعظم من صادفتهم من العاملين في مهنة البيزنس كان أسلوب حياتهم يغلب عليه الآتي : عمل مستمر طوال اليوم ، اعتذارات متكررة للزوجة والمعارف ، عجز عن الالتزام بالواجبات الاجتماعية ( مثل حضور أعياد الميلاد ، أو الأفراح ، أو حتي المآتم … إلخ ) ، الشكوي من كثرة الأعمال المطلوب إنجازها ، ومن الإرهاق الجسمي والنفسي ، نتيجة للتوتر الدائم ، واضطراب النوم ، ونظام التغذية ، إلي جانب الشكوي من المرءوسين والرؤساء ، والشك في ولاء الجميع. فضلاً عن قضاء معظم الوقت في الحديث عن آمال معقودة حول التوسع الأفقي والرأسي في مشروعات قادمة ، وأحلام عن إعادة تنظيم أمور الحياة علي نحو جديد ، وأحاديث أخري عن السعادة الحذرة ، والآمال المشكوك في تحققها.

وإذا طلبت تبريراً من هؤلاء عن سبب تقبلهم لهذا النمط من الحياة ، فسوف يجيبك الهادئون منهم بردود من قبيل : هذه سنة الحياة … أكل العيش مر … كل مهنة ولها متاعبها. أما الانفعاليون فسيصرخون في وجهك بالعبارة الشهيرة : هل أخسر كذا لأفعل كذا ، بمعني آخر ، هل أخسر صفقة كبيرة لأذهب مع زوجتي إلي السينما ، هل أترك عملي ومصالحي لأذهب إلي حفلة عيد ميلاد ، ” هل أترك رعاية أموالي المبعثرة في أماكن شتي ، لأذاكر لأولادي دروسهم ! “. والبديل المطروح من قبلهم في هذه الحالة ، هو رشوة الزوجة أو الخطيبة بالهدايا ، والأبناء بالدروس الخصوصية ، وأفراد العائلة بالأعتذارات مرة وبالرعاية المالية – العلنية – للفقراء منهم مرة ، وبالتعالي والتجاهل مرات أخري.

ومن ثم إذا ما جمعنا هذه المظاهر معاً في صورة واحدة نجد أن رجل الأعمال تتنازعه دائماً عديد من الطموحات ، والأحباطات معاً ، فتكون الضحية غالباً حياته اليومية.

والسؤال الآن الذي يفرض نفسه ما الذي يجعل أسلوب حياة رجل الأعمال علي هذا النحو. في الواقع هناك ثلاثة أسباب ، يمكن مناقشتها ، بأعتبارها فروضاً محتملة الصواب.

السبب الأول هو فشل معظم رجال الأعمال في إحداث توازن بين دورهم المهني وباقي أدوارهم الاجتماعية ( دورهم كآباء ، أو أزواج ، أو مثقفين .. إلخ ). وذلك لعدم استعدادهم إلي الخسارة في مجال العمل ( ذي العائد الملموس ) من أجل تحقيق نجاحات أخري في المجال الأسري أو العائلي ( ذات العائد المعنوي غير الملموس ). وهو ما يعبر عنه في لغة الحياة اليومية بعبارات من قبيل : ” هل أخسر الصفقة لأذهب إلي رحلة ” أو ” إن الزوجة من الممكن أن ترحم ولكن السوق لا
يرحم ).

وتنطوي هذه الأقوال علي مغالطات عديدة ، منها : إغفال أن قدراً من الخسارة في مجال ما مطلوب لتحقيق نجاح في مجال آخر. وأن من يشاركوني حياتي يجب أن يشعروا بأستعدادي للتضحية من أجلهم حتي يساعدوني ، ويقبلون التضحية المطلوبة من جانبهم.

أما السبب الثاني فيكمن في فشل الفرد في إحداث نوع من التمايز بين متطلبات كل دور يقوم به. فالبعض يعامل أهل بيته علي نحو ما يعامل به مرءوسيه أو رؤسائه ، وبالتالي لا يميز بين ما يتطلبه دوره كأب مثلاً وما يتطلبه دوره كرئيس في العمل. وهذا خطأ شائع في كل المهن. فتجد المدرس يعامل أبنائه وكأنهم تلاميذ في مدرسته ، والضابط يحاسب أبناءه وكأنهم متهمون علي ذمة قضية ، والمحامي يجادل زوجته ، وهو شاهر في وجهها كل ما لديه من أدلة وبراهين.

والأمر في حالة رجل الأعمال يأخذ أشكالاً سلبية ، فنجد أن أكثر ما يجذبه في اللقاءات العائلية ، الأحاديث المتصلة بالعمل ، وهو أميل إلي تحويل كل لقاء اجتماعي إلي افطار عمل أو غذاء عمل أو عشاء عمل ، حتي لو كان أطراف اللقاء من غير رجال الأعمال.

ويتمثل السبب الثالث وراء الحياة الضاغطة التي يحياها رجل الأعمال ، في الصعوبات التي يواجهها للحفاظ علي قيمه الشخصية ، وعلي قيم المهنة التي يمتهنها. فهناك اعتقاد راسخ لدي كثير من رجال الأعمال مؤداه أن القيم في عالم البيزنس متغيره ، فكما أن البضائع تتغير أثمانها كل يوم ، فالقيم أيضاً يجب استبدالها بغيرها كل يوم وفقاً لمتطلبات السوق. وشواهدهم علي ذلك كثيرة ، فهذا ائتمن صديقه علي ماله ، وما كان من الأخير إلا خيانة الأمانة ، وهذا تعلم في شركة هذا ، وما إن قويت سواعده ، وأرتفعت مهاراته ، فإذا به يسعي إلي الانفصال ليعمل لحسابه الشخصي. ونتيجة التذبذب في قيم الفرد في مجال العمل ، تهتز دعائم قيمه في حياته اليومية ، وهو ما يجعله يشك في كل من حوله ، ويحاول قراءة النوايا قبل سماع الأقوال ، أو مشاهدة الأفعال.

وما نود أن نشير إليه في النهاية ، هو أن كثيراً من المهن الأخري ، يعاني أصحابها من مظاهر مشابهة لما عرضناه هنا ، ولكن الفرق بينها وبين مهنة البيزنس أن الأهداف في الحالة الأولي تكون واضحة ، ونتائجها قابلة للتحقيق من فعاليتها بسهولة ، في حين أن الأمر أكثر غموضاً في الحالة الأخيرة. فرسالة الطب أو التدريس أو المحاماه أقرتها الإنسانية منذ الأزل ، فإذا ما كافح الفرد من أجلها ، فإن جهوده تكون موضع تقدير وقبول من قبل الآخرين ، أما رسالة البيزنس ، والقيم المساندة لها ، فقد ظلت عبر التاريخ محل تساؤل من قبل الفلاسفة ، والحكماء.