من أدبيات علم اللوع ( 1 ) أخلاق البيزنس

القيم هي أكثر الوظائف النفسية رسوخاً واستقراراً في نفوس الأفراد ، وهي أكثرها تأثيراً وتحكماً في سلوكهم . هذه الحقيقة يعرفها جيداً كل من نال قدراً – ولو ضئيلاً – من الدروس التمهيدية في علم النفس . وهو يعرف كذلك أن التغير أو التبدل في منظومة القيم ، أو التعديل فيها ، يحتاج إلي شروط غاية في التعقيد . ومن ثم فإن ما نلحظه من تغيرات مفاجئة في هذه المنظومة لدي بعض المحيطين بنا ، يحتاج منا إلي التوقف قليلاً لنبحث عن تفسير متسق لملاحظاتنا العابرة . وهو ما سنحاول الإقدام عليه الآن بصحبة القارئ الكريم .

ففي الآونة الأخيرة ، زاد اهتمامي بتأمل ما طرأ علي بعض أصدقائي من تغيرات ملحوظة في أنماط سلوكهم ، ولغة تخاطبهم ، وأسلوب حياتهم . وقد شعرت – في البداية – بأنني عاجز عن تفسير هذه التغيرات ، ولكن بمزيد من التأمل وجدت أن هناك عاملاً مشتركاً وراء هذه التغيرات جميعاً ، فصحت كما صاح ( أرشميدس ) ، وجدتها … إنه البيزنس . وعندما حاولت أن أنتقل بتأملاتي من الإطار الضيق الذي يحوي الأصدقاء والزملاء إلي الإطار الاجتماعي الأكثر اتساعاً الذي يحوي الناس في الشوارع ، وفي المجالس الخاصة والعامة ، وجدت أن أخلاق البيزنس كانت طرفاً في معادلة تغير القيم لدي هؤلاء أيضاً ، فأثار ذلك بداخلي سؤالاً شائكاً وهو : كيف تسربت هذه الأخلاقيات إلي سلوكنا في حياتنا اليومية ؟

وقبل أن ابدأ رحلة البحث عن الإجابة عن السؤال السابق . استرجعت بعض المواقف التي خبرتها بنفسي ، ووضعتها موضع التحليل . أول هذه المواقف التي استوقفتني واجهتها حين سافر أخي في رحلة علاج بالخارج ، اضطررت إلي إدارة بعض أعماله إلي أن يأتي من السفر ، وفي أحد الأيام فوجئت بأحد مديري شركته يقول لي بين الجد والهزل ” بكم تبيع أخوك ؟ ” ، ضحكت علي أنها دعابة سخيفة ، وانتظرت منه أن يضحك فلم يضحك ، فعرفت بعد ذلك أن رجل الأعمال يقبل منك أي شئ عدا الضحك أثناء الكلام في البيزنس .

 

في سياق آخر ، قصدني زميل أن أدلة علي مكان يبتاع منه أحد الأجهزة ، فأتصلت تليفونياً بأحد أصدقائي – يملك محلاً يبيع مثل هذه الأجهزة – فأخبرته عن طلب زميلي ، وأوصيته بحق الصداقة أن يكرمه ، وفي نهاية المكالمة فوجئت بصديقي البائع يشكرني ، ثم أردف قائلاً – بين الهزل والجد أيضاً – إذا أرسلت لي عملاء أكثر ليبتاعوا من عندي فثق أن عمولتك محفوظة ، ثم ضحك مرة أخري !.

في موقف ثالث ، حاولت أن أثني علي أحد الأصدقاء – أحبه كثيراً رغم قصر فترة صداقتنا – فقلت له أفضل ما فيك أنك لازلت محتفظاً بطيبتك ، ونقائك ” هنا صاح مستنكراً ” أنا مش طيب ” ثم حاول جاهداً أن يثبت لي خطأ أعتقادي ، وكان دفاعه عن نفسه أمام أتهامي ” الفظيع ” له بالطيبة ، أنه رجل أعمال ، فلماذا أحاول أن أهينه وأصفه ” بالطيبة ” !!.

في مرة رابعة ، أتصل بي صديق يدعوني إلي مشاركته في عمل علمي جاد ، وقبل أن يسمع ردي علي طلبه أردف قائلاً ” هذا العمل له عائد مادي مجز ، لا تخف .. ” ولا أعرف حتي الآن ما هي علامات الخوف التي لاحظها علي صديقي وأنا احدثه في التليفون المصممت ؟ !!!.

في سياق آخر ، طلب مني زميل سلفة كبيرة – إلي حد ما – وأنهي طلبه بعبارة تعمد أن تكون حاسمة ، ومحايدة في ذات الوقت ، فقال أنه مستعد لدفع 2% فوائد عن كل ألف جنيه. وعندما أبديت تعجبني ، بدأ يقنعني أن هذا حقي لأنه هو شخصياً سوف يتاجر بها.

تأملت الأمثلة الخمسة السابقة ، فوجدتها ممثلة تمثيلاً جيداً للأخلاق الجديدة التي يدعو إليها البيزنس – في النسخة العربية منه – والتي من بينها : أن كل شخص له سعر حتي يخون الأمانة ، وأن كل منفعة تحققها لآخر يجب أن تأخذ أجرها وعمولتها ، وأن فوائد الربا حلال اجتماعياً طالما أن أطرافه متراضية ، وأن ” الطيبة ” صفة لا تليق برجل الأعمال لأنها تعني في لغة البيزنس البلاهة ، والاستسلام لبطش الآخرين.

هذه أمثلة واقعية ، خبرتها بنفسي ، وحين حكيتها لبعض الأصدقاء المحنكين – وقت وقوعها – ذكروا لي عديداً من الأمثلة الأخري المشابهة ، ثم اضافوا لي معاني جديدة لم أكن علي وعي واضح بها فأخبروني : أن البيزنس هو فن البحث عن النوايا قبل إصدار أي استجابة ، وهو التأدب المصطنع حتي يقع العميل في شباك الصفقة ، وهو خيانة الأمانة إذا ما اتفق الجميع علي أن الخائن هو أذكي أطراف اللعبة ، وهو أخيراً لغة العصر، أي عصر يحمل شعار ” شيلني واشيلك “.

بالطبع ليست هذه هي لغة العصر إنها لغة السوق ، وأخلاق البيزنس ، إنها اللغة التي جعلت الطبيب يسمي مريضه زبوناً ، وجعلت الموظف يخاطب العملاء في المكاتب الحكومية ، علي النحو الذي يخاطب به السمسار عمليه.

وهي الأخلاق التي جعلت المدرس لا يكتفي بإعطاء التلاميذ دروساً خصوصية ، بل جعلته يشترط أيضاً أن يأخذ أجره الدرس مقدماً ، وأن يأخذها أولاً بأول بعد أنتهاء كل حصة. إنها الأخلاق التي حولت مهن سامية مثل الطب والتدريس والمحاماة إلي صور باهتة من مهنة أكبر تضمهم جميعاً في بوتقة واحدة ، وهي مهنة البيزنس. حيث القانون هو المنفعة ، والأخلاق هي ” الفهلوة “.

إذن لا سبيل إلي مقاومة هذه الأخلاق الوافدة إلينا من عالم البيزنس ، إلا بمراقبة سلوكنا ، ومناقشة أفعالنا في ضوء محك آخر غير محك المنفعة.

وليكن أول ما نفعله في اتجاه محاصرة أخلاق البيزنس هو منع تسرب لغته إلي لغتنا اليومية ، لأن تسربها إلي اللغة هو أول الطريق في اتجاه تسربها إلي ضمائرنا. ولا يخفي علي القاريء العزيز مظاهر هذا التسرب التي اندست في لغتنا. فأصبح من المألوف – الآن – أن ينصحك زميل لك ألا تزيد فجوة الخلاف بينك وبين الآخرين قائلاً ” اللي ما تحتاجش وشه النهارده بكره تحتاج لقفاه “. وألا تظهر غضبك لمن بين يديه قضاء مصلحة لك حتي لو أخطأ ” فإذا كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي “. وإذا أتتك الفرصة للفوز علي خصم لك فتقدم بسرعة لأن ” اللي تغلب به ألعب به “. أما إذا أتتك الفرصة للتعاون معه فليكن شعارك ” هات وخد وشيلني وأشيلك “.

كما هو واضح ، جميع هذه التعبيرات لها مقابل أقل فحاجة ، إلا أن البعض يجد في هذه التعبيرات الفجة وسيلة موضوعية للتعبير عن مقاصده. وإذا أبديت لمحدثك اشمئزازك من أستخدام هذه التعبيرات ، فسرعان ما يواجهك برد من قبيل ” ما تزعلش مني أنا راجل عملي ” ، ” أو ” الشغل شغل لا مجال فيه للمشاعر والمجاملات ” ، أو غير ذلك من التعبيرات العملية الجافة.

والشيء المثير للدهشة أن هذه التعبيرات شائعة ومتداولة منذ زمن طويل ، ولكن أستخدامها كان قاصراً علي فئات مهنية معينة ( مثل التجار ، والسماسرة .. إلخ ) ، وكانت تستخدم في مواقف محددة ، مثل مواقف عقد الصفقات التجارية وما شابه ذلك ، وكان من يستخدمها يرددها علي استحياء. ولكن الآن من السهل أن تجدها في ثنايا حوار بين عدد من طلاب الجامعة ، أو الموظفين ، أو حتي الصفوة من المثقفين ، والأكاديميين.

والوقوف علي دلالات هذه العبارات يجعلنا نقف علي جانبي الحق والباطل فيها. فعلي سبيل المثال يدعونا القول الأول ” اللي ما تحتجش وشه النهاردة بكره تحتاج لقفاه ” إلي أن يكون لدينا قدر من المرونة عند تفاعلاتنا الاجتماعية. ولكن هذه الدعوة تتخذ من ” المنفعة ” سنداً لها ، فبدلاً من تأكيد أن المرونة مطلوبة في كل الأحوال والمواقف بأعتبارها وسيلة الإنسان للتكيف مع بيئته ، وبدلاً من تأكيد أن الخلاف في الرأي لا يجب أن يفسد للود قضية. يؤكد القول السابق أن الأختلاف في الرأي لا يجب أن يتطور إلي حد الصدام لأن المصلحة تقتضي ذلك !.

يؤكد أيضاً القول المأثور ” هات وخد ” ضرورة أن يتبادل الأفراد العطاء حتي يدوم الود بينهم. ولكن ناصحك الأمين يستخدم هذا التعبير – عادة – علي نحو محايد ، ليؤكد ضرورة تبادل المصالح بينكما فإن لم تفهم ، فإنه غالباً ما يردف قوله الأول بقول أكثر كشفاً عن مقاصده قائلاً ” شيلني وأشيلك “.

وتكرار الحديث عن أن الوقت يساوي فلوس ، هو المقابل للقول الذي تعلمناه في صغرنا ، والذي كان يحثنا علي عدم إضاعة الوقت لأن ” الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ” ولكن الترجمة العملية للقول الأخير تنبهك إلي أن سيف الوقت إن لم تقطعه فسوف يخرق جيبك.

والآن ، بعد كل ما استعرضناه من أمثلة ، إلا تري عزيزي القاريء أن البيزنس – بوصفه مهنة – يصلح أن يكون مصدراً للرزق ، ولكنه لا يصلح أن يكون مصدراً للقيم والأخلاق … إذا أتفقت معي علي ذلك ، عليك أن تبدأ فوراً في مقاومة أخلاق البيزنس قولاً وفعلاً.