من أجل من نقتل ؟

جاءني أحد الزملاء يسألني النصيحة ، فبدأ كلامه قائلاً : مشكلتي بسيطة ولكني لا أعرف لها حلاً ، خلاصتها إني أصبحت – من كثرة العمل – لا أجد الوقت الكافي لأفكر فيه في شئوني وهمومي الخاصة ، قال جملته ثم توقف عن الكلام ، وترك لخيالي تصور ما يمكن أن تفعله أثنتا عشرة ساعة عملاً في جسم فرد في نحافته ، وفي عقل شخص في درجة طموحه.

وفي حديث مشابه مع أحد الأصدقاء ، ولكن في هذه المرة كنت أنا الساعي إلي نصيحته ، باغته قائلاً لماذا لا تقضي وقتاً كافياً للعب مع ابنيك الصغيرين ؟ حيث يجمع المتخصصون في علم النفس علي أن اللعب مع الأطفال من أكثر مصادر المتعة إسعاداً لممارسها ، وابناك بهذا المعني ثروة كبيرة يجب أن تحسن أستغلالها. رد صديقي بسخرية ، لا تليق وعلاقة الود التي تربط بيننا ، عندما يصل حجم ديوني للبنك إلي مليون جنيه وأكثر ، أعتقد أنه من الصعب علي أن أعمل بنصيحتك ، ثم أستدار علي كرسيه ليبحث عن أبنه الكبير لكي يشتري له علبة سجائر.

وفي حديث ثالث كنت أنا الساعي فيه إلي طلب النصيحة ، سألت أحد أساتذتي – ممن يجمعون في شخصيتهم بين حكمه العلم ، وحكمه السن – لماذا نشعر كثيراً – ونحن مازلنا شباباً – بأن الأيام تمر بنا بسرعة شديدة ، وأن الكبر يأتينا من مخبأ لا نتوقعه ، فرد بدون مقدمات – كأنه متوقع السؤال – ” شعوركم هذا نتاج ترككم للزمن يخترق أيامكم ، ويضغط عليكم ، بدلاً من أن تجبروه علي أن يمر في المسار الذي رسمتموه له “. وما إن هممت لأستوضحه القول نصحني بأن أترك للزمن الفرصة حتي يكشف لي عن دلالات ما قال.

وعلاوة علي ما تنطوي عليه أحاديث الزميل ، والصديق ، والأستاذ ، من دلالات بعيدة ، تتصل بعلاقة الإنسان المعاصر بالزمن ، فإنها تنطوي كذلك علي حقيقتين شديدتي الخطورة ، أولاهما : أن وقت الفراغ ، في حياتنا اليومية بدأ حجمه يتقلص يوماً بعد يوم ، وبتقلصه صار الوقت الذي ننعم خلاله بممارسة ما نحب في تناقص دائم. والثانية – وهي الأهم – تتجلي في فشل البعض في إحداث التوازن المناسب بين الوقت والجهد والمال.

وبالطبع ، هناك عوامل عديدة تسهم بدور كبير في تقليص وقت الفراغ ، منها ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ( كحالة الفقر التي تدفع بالبعض إلي مضاعفة العمل لتحسين الأحوال المعيشية ) ، ومنها ما هو حضاري ( كما يتبلور في ثقافة التعامل مع الوقت والرزق والمال ). ولكن ما يهمنا من هذا المقال العوامل النفسية ، فالشعور بأن الأيام تمر بسرعة ، هو شعور نفسي في الأساس ، لأن الساعة المعلقة علي الحائط لا تجرؤ أن تتحرك دقيقة واحدة بدون أن تدور الأرض ، أما الساعة النفسية فهي قادرة علي أن تجري بسنوات عمرنا بسرعة كبيرة دون أي أحترام لدوران الأرض أو توقفها.

ويقف علي قمة هذه العوامل النفسية ، إدراكاتنا للوقت فيما ننفقه ، وللجهد فيما نبذله ، ولطموحاتنا كيف نرشدها. فإذا كانت مملكة السعادة ، تاجها الصحة ، وسيفها الوقت ، وزينتها المال ، ودرعها المعرفة ، فإن التربع علي كرسي المملكة يستلزم المواءمة بين هذه العوامل جميعاً ، ولن ننعم بالعيش فيها إلا إذا وفرنا لأنفسنا الوقت الكافي للسير في بساتينها.

ووفقاً لتعريف المتخصصين ، يشير وقت الفراغ إلي الوقت الذي لا نعمل فيه ولا نرعي فيه غيرنا ، فإذا ما أتانا بعد أدائنا لواجباتنا وأدائنا لمتطلبات أدوارنا الاجتماعية. زاد احتياجنا إليه ، أما إذا أتانا بدون عمل ، فإن إدراكنا له يختلف. وبالتالي لا معني لراحة بدون جهد ، ولا معني لوقت الفراغ بدون أداء ألتزاماتنا الحياتية ، أما وقت الفراغ السلبي ، الذي يسرقه الموظف من وقت العمل ، ويسرقه الطالب من اليوم الدراسي ، ويسرقه العاطل من عمره. فهو كمناطق أنعدام الوزن في الفراغ الكوني ، يعجز فيه الفرد عن تحديد اتجاهه.

ومن هنا نستطيع أن نفهم قدر التشابه بين معاناة من يشكون من زيادة وقت الفراغ ، ومن يعانون من قلته. فالبعض لديهم من وقت الفراغ الكثير ، ومع ذلك عاجزين عن الاستمتاع به لأنه نتاج البطالة بمختلف صورها ( الحقيقة منها والمقنعة ) ، والبعض الآخر ليس لديه وقت فراغ ، نتيجة العمل المستمر ( سعياً وراء الرزق أو جرياً وراء تحقيق الطموحات ) ، أو نتيجة الأنشغال الدائم برعاية الأخرين ( أطفالاً كانوا أم كباراً ).

وعلي هذا النحو تقتل المتعة من حياة البعض نتيجة أمتلاء إناء وقت الفراغ بمشاعر البطالة الحارقة ، وتقتل المتعة لدي البعض الآخر نتيجة أمتلاء الإناء بهموم العمل والحياة اليومية. وإذا سألت هؤلاء أو أولئك ، عن من القاتل ؟ فسيجيب الجميع إنه الزمن ، فهو ثور جامح ، ينفلت منا فتنفلت معه متعتنا ثم حياتنا ، ولا يذكر أحد من هؤلاء المجني عليهم السبب وراء تمكن قاتلهم منهم. وإذا توجهت بسؤالك إلي الزمن ، فسيرد علي الاتهام باتهامات ، وسيصيح مدافعاً عن نفسه هذا بارز – بي – المال ، فهزمه المال واختطفه مني. وهذا ناوش – بي – السلطة فجذبته إليها وتركني ، وهذا أخرجني من غمدي ليقهر – بي – وحدته ، فقتلته نفسه ، مرة باستسلامه لمشاعر الغيرة ، ومرة بسقوطه في مستنقع الانتقام ، ومرة باستجابته لاستفزاز الآخرين ، أما هذا فقتلته المناقشات العقيمة ، والاستغراق في توافه الأمور.

والمنغمس في الجدل الدائر بين الإنسان والزمن ، قد لا يجد إجابة واضحة عن من القاتل ؟ فإذا سلم بأنه القاتل ، فسيواجه سؤالاً أصعب وهو ” من أجل من يقتل ” ؟.