ماكينات صناعة الأعداء

صناعة الأعداء حرفة قديمة ، عرفتها البشرية منذ وطئت قدم الإنسان الأرض ، ولكنها لم تجذب انتباه المفكرين لمعرفة أسبابها ومظاهرها ، ومترتباتها إلا في مواقف الانعصابات الكبري ( كالصراعات الدولية ، والحروب ، والعداءات بين الجماعات العرقية ). وفي حياتنا اليومية ، تؤكد الوقائع أنه كلما زاد الجهل بالقوانين النفسية والسلوكية زاد ازدهار هذه الصناعة وانتشرت. وقراءة سريعة في ملفات محاكم الأحوال الشخصية مثلاً ، تكشف لنا عن الصورة القاتمة لما وصل إليه رواج منتجات هذه الصناعة. فمن بين هذه المنتجات تجد : الزوج الذي يطلب زوجته في بيت الطاعة ، والأبن الذي يحجر علي أبيه ، والأخ الذي يسلب أخاه حقه ثم يقاضيه ، والأب الذي يطرد أبنه من منزله ، والصديق الذي يخون صديقه .. إلي آخر ما تنتجه هذه الصناعة من منتجات غاية في التنوع.

وصناعة الأعداء ككل الصناعات تحتاج إلي عدد كبير من المقومات حتي تقوم لها قائمة. فهي تحتاج إلي مصادر للطاقة لتشغيل ماكيناتها ، ورؤوس أموال لجلب احتياجاتها. وماكينات لإنتاج بضائعها وأيدي عاملة تروج لها … إلخ ). ويعد رصد هذه المقومات الخطوة الأولي لتحديد حجم تأثير هذه الصناعة في حياتنا الاجتماعية ، وهو ما نعتزم القيام به في هذا المقال.

ينتج مصنع إنتاج الأعداء في الأساس المشاعر السلبية المتبادلة بين الأفراد. وينقسم الربح العائد علي المستثمرين في هذه الصناعة إلي قسمين أساسيين : ربح مباشر يدره عداء الفرد للآخرين ، حتي يمكنه إخفاء عيوبه الشخصية أول النيل من الناجحين ، أو انتزاع مكانة مرموقة قسراً ، إلي آخر ما تدره هذه المشاعر السلبية من مكاسب وقتية ، أما النوع الآخر من الربح ، فهو نوع خفي ينصب علي حصول الفرد علي مزيد من الأعداء أو – علي الأقل – مزيد من المنافقين.

وفي حياتنا اليومية تتعدد الآليات ، والآلات المستخدمة في تشغيل هذه الصناعة ، تتدرج ابتداءً من الجليطة الاجتماعية ، مروراً بالنقد اللاذع للآخرين واستفزازهم ، وأنتهاءً بإضمار مشاعر الثأر والأنتقام.

وتعد ماكينة الجليطة أهدأ الآلات صوتاً في مصنع إنتاج الأعداء ، وإن كانت اشدها إنتاجاً للمشاعر السلبية المكتومة ، وتعتمد هذه الآلة في عملها علي التعالي علي الآخرين ، وإيذاء مشاعرهم بدون مناسبة تدعو إلي ذلك ، كأن يقابل مستخدم هذه الآلة أفعال الآخرين الطيبة تجاهه بالتجاهل المتعمد ، والترفع المصطنع ، أو أن يقلل من شأن محدثه رغم معرفته التامة بعلو مكانته ، أو يزهو بذاته أمام آخرين يعلم جيداً قدر بساطتهم ، أو أن ينفر علي نحو مبالغ فيه سلوك الأقل منه شأناً ، أو من أفكار الأقل منه معرفة. وتستطيع ماكينة الجليطة أن تنتج عدداً هائلاً من مشاعر الغل المكتوم ، والكره الكامن ، ولكن إنتاجها للأعداء لا يكون مباشراً غالباً ، ولذلك تحتاج إلي وقت أطول لتفريخ بضاعتها.

أما ماكينة النقد فهي أكثر الآلات شيوعاً ، فلا يخلو حديث بين اثنين إلا ووجه طرف من طرفية سنهام نقده لسلوك وأفكار الطرف الآخر.وإن كان هذا مقبولاً في بعض المواقف ( كالسياقات التعليمية أو التربوية عموماً ). فإنه شديد الخطورة في غير ذلك من المواقف ، ولا يؤدي – غالباً – إلا إلي جني مزيد من الأعداء. وتعمل ماكينة النقد معتمدة علي نوع خاص من مثيرات الطاقة ، تتمثل في المراقبة الزائدة لسلوك من تتفاعل معهم. ومناقشة أمور الحياة اليومية في ضوء الصواب والخطأ ، والحكم علي أفعال الآخرين في ضوء الدقة ، والنظام والكفاءة ( بدلاً من مناقشتها في ضوء السياق الذي حدث في ظله السلوك ، والحالة الوجدانية للفرد أثناء أداته ).

وتتميز الماكينة الثالثة ( ماكينة الاستفزاز ) عن غيرها من الماكينات بسرعة إنتاجها للمشاعر السلبية لدي الآخرين تجاه مستخدمها ، ففي دقائق معدودة يستطيع مستخدم هذه الماكينة أن يستثير عداء محدثه بسرعة هائلة ، وبالتالي فالوقود المعتمد عليه هنا هو السخرية من الآخرين ، والتعريض بهم ، وتحديهم ، وعنادهم ، فضلاً عن النقد اللاذع ، المصحوب بهجوم مباشر علي العيوب الشخصية في الخصم المنتظر.

وإذا عملت الماكينات الثلاث السابقة بالكفاءة المطلوبة لإنتاج المشاعر اللازمة لإنتاج الأعداء ، يبدأ عمل الآلة الرابعة وهي ماكينة الثأر والأنتقام. فتمكنك هذه الماكينة من أن تبقي علي عدائك لغيرك أطول مدة كافية ، وفي بعض الأحيان تدفعك إلي تغيير أسلوب حياتك ، حتي تستطيع أن تبقي علي مشاعر الكره بداخلك. فعلي الرغم من أن الله أنعم علينا بنعمة النسيان ، سواء نسيان الأحداث المؤلمة أو المشاعر المصاحبة لهذه الأحداث ، فإن صانعي الأعداء هم وحدهم القادرون علي تنشيط هذه الذاكرة دائماً ، والقادرون أيضاً علي نشرها ، وزرعها في غيرهم ، مستخدمين آليات المراوغة الاجتماعية بمختلف أشكالها ، لترسيخ هذا العداء في النفوس.

ومن ثم تعد الانفعالات المصاحبة لمشاعر الفشل ، أو الغيرة ، أو الغرور ، أو الزهو ، أو الطموح الزائد ، أهم مصادر الطاقة التي تعتمد عليها هذه الصناعة الخبيثة ، أما رأس المال المستثمر فيها ، فهو الوقت ، والجهد ، والمال. فحين يفشل الإنسان في استثمار وقته في شيء هادف ( نتيجة البطالة أو الفراغ أو الخواء النفسي … إلخ ). أو حين يزج بنفسه في قضايا هامشية بعيدة كل البعد عن أهدافه ، أو حين يتوقف عن تنمية مهاراته ، أو حين يتنازل كل يوم عن أهتمام من اهتماماته ، أو حلم من أحلامه ، لا يجد سوي صناعة الأعداء حرفة يمتهنها لإنفاق وقته ، وجهده ، وماله ، وغالباً ما يجد من يفلسف له الحياة علي نحو من يجعل من صناعة الأعداء أهم الصناعات علي مدار الزمان.