قلب المؤمن ووجدان المبدع ومشاعر من لا حيلة له

الوجدان هو محرك السلوك وموجه الفكر ، هذه الحقيقة يعرفها جيداً عالم النفس وهو يجري تجاربه ، والمؤمن وهو يستفتي قلبه ، والمبدع وهو يصوغ أفكاره ، والمواطن البسيط وهو ينزف الدم تحت العلم ، وهو يدعو – أيضاً – علي ظالمه.

وفي حياتنا اليومية نتبادل عدداً كبيراً من الأقوال والحكم – المستمدة من الموروث الشعبي والديني – كلها تؤكد ما للوجدان من دور في تحريك السلوك ، وتوجيه الفكر. فينبهنا القول المأثور إلي أن ” قلب المؤمن دليله ” و يحثنا الحديث النبوي علي ضرورة أن ” نستفتي قلوبنا ” إذا ما تعددت الاختيارات. أما شاعر الربابة فهو يدعونا للتعجب معه وهو يغني ” القلب له أحكام “.

والملفت للنظر أن البعض يتخذ من هذه الأقوال منهجاً في الحياة يسيرون بنوره في دروب حياتهم اليومية ، فيستندون إلي مشاعرهم في التفريق بين الحق والباطل ، والتمييز بين الصواب والخطأ ، ويعتبرونها سندهم الأخير للدفاع عن حقوقهم إذا نقص علمهم ، وتعثر لسانهم ، وقلت حيلتهم.

وهذه الحكم وغيرها من الأقوال – التي تشير مجازاً إلي القلب باعتباره بوصلة العقل ومحركه – تتفق وما توصلت إليه الدراسات النفسية عن علاقة الدوافع بالسلوك ، فيشير عالم النفس الشهير ( برلين ) إلي أن من بين الوظائف الأساسية للدافعية أنها تحافظ – من ناحية – علي تتابع الاستجابات التي يصدرها الفرد حتي يستطيع الوصول إلي الهدف أو الحل النهائي ، وهي التي تحدد من ناحية أخرى – نوع الاستجابة التي سيتم اختيارها من بين عديد من الاستجابات الممكنة ، وذلك تبعاً لمدي لمدي قوة الدوافع المتعلقة بالاستجابة المنتقاه .

وأوضح مثال يكشف لنا الدور الذي يقوم به الوجدان في تحديد استجابات الفرد وسلوكه ، هو حالة المبدع أثناء لحظات إبداعه . فعلي الرغم من أن الإبداع يُنظر إليه باعتباره نشاطاً عقلياً في الإساس إلاّ أن العمليات المعرفية لا تسير منفصلة عن العوامل الوجدانية . وتقوم الأخيرة بأدوار متباينة أثناء مسار العملية الإبداعية ، فبفضل التوجه الوجداني الذي يعايشه المبدع وهو يقترب من تحقيق أهدافه ، تتتابع استجاباته دون أن تتشتت جهوده ، فأفكار المبدع في البداية تكون غير منظمة ، ولا يربط بينها رباط منطقي واضح ، ومع ذلك يعايش المبدع حالة من التوجه الوجداني ، تكون هي مرشده الأساسي في التقدم نحو الحل . وأثناء ذلك لا يقبل الأفكار التي تجول بخاطره أو يرفضها تبعاً لصحتها المنطقية بل يقبلها أو يرفضها تبعاً لدرجة إشباعها لحالة المتعة والرضا التي يعايشها في هذه اللحظة ، والتي تكون بمثابة هاديات له علي أنه يقترب من الحل المقبول . وتنظم له جهوده واستجاباته في اتجاه بلورة الحل في شكله النهائي .

وهذا التوجه الهادف الذي يعايشه المبدع هو ما يفسر لنا دور ” الصدفة ” في العملية الإبداعية ، فالقول بأن كثيراً من المخترعات والمكتشفات العلمية وصل إليها مبدعوها عن طريق ” الصدفة ” ( مثلما حدث لأرشميدس عندما توصل إلي قانون الطفو وهو يستحم في حمام منزله ) قول فيه إغفال لسلسلة الخطوات والعمليات النفسية ، التي سبقت الوصول إلي الحل فلولا أن سلوك المبدع موجه نحو هدف لما انتبه أصلاً إلي ما يقع في مجاله من أحداث عارضة ، ولما استطاع أن يربط بينها وبين الموضوع الذي يشغله إلي أن يصل إلي حل مشكلته . فعندما سقطت التفاحة مصادفة علي رأس نيوتن ، كانت هذه الرأس مشغولة بالتفكير في طبيعة العلاقة التي تربط بين الكواكب والشمس ، وكان الوجدان متعلقاً بكل ما يرتبط بهذه المشكلة من قريب أو بعيد ، مما جعل وقوع التفاحة حدثاً يستحق الاهتمام به وبفضله أمكن الوصول إلي قانون الجاذبية .

أما الشعور بالمتعة فهو حالة وجدانية لها أهميتها الخاصة في توجيه مسار العملية الإبداعية ، وإن كانت تتم وتتخلق دون وعي كامل بها فهي تقوم بدور كبير في اختيار الفكرة الأفضل في موقف المفاضلة بين الأفكار بناء علي ما تثيره كل فكرة من مشاعر سارة ، ولذة وجدانية . فالحل النهائي لا يأتي للمبدع مصادفة ، ولكنه نتيجة عديد من عمليات التقييم والانتقاء التمييزي – غير المشعور بها غالباً – والتي تتم علي مستوي وجداني أساساً ، وليس علي مستوي معرفي . ويعد الشعور بالمتعة أهم آليات التقييم الوجداني للأفكار ، فهو شعور سار ينمو داخل المبدع بالتدريج أثناء اقترابه من الحل المقبول – للمشكلة التي تؤرقه ، أو من الهدف النهائي الذي يسعي إليه ، ويثق المبدع في الاحتكام إلي هذا الشعور عند الحكم علي الأفكار نتيجة لتراكم خبرات النجاح التي ارتبطت به . فعندما يتوصل المبدع إلي أحد الحلول مصحوباً بمثل هذا الشعور وهو بصدد مشكلة جديدة تواجهه ، فإنه يدرك علي الفور أن هذا الشعور قاده قبل ذلك إلي نتائج بناءة ، ومن ثم يربط بينه وبين تحقيق النجاح .

وما الحل النهائي بهذا المعني الإنتاج دفعة وجدانية وجهت مسار التفكير ، وشحذت القدرات في اتجاه ما يُشبع التذوق الجمالي للمبدع . وتهيئته لاختيار أكثر البدائل إرضاء لشعوره هذا بالمتعة .

****

وعلي نحو مشابه لما يحدث للمبدع ، واستجابته لما يمليه عليه الشعور بالمتعة في تحديد توجهاته واختياراته ، نجد الشخص العادي ، يستجيب لمشاعر الرضا لديه في المفاضلة بين الاختيارات المتاحة أمامه ، فهي العصا التي يتكئ عليها وهو يستفتي قلبه ، والسيف الذي يشهره أمام من يبارزه بسيف الحجج المغلوطة ، والمنطق الملتوي .

ويكشف لنا ما سبق أن المنطق ليس هو المحك الأوحد لنقد الأفكار واتخاذ القرارات بل إن الوجدان أيضاً له دوره البارز في هذا الصدد . فلا يستطيع المنطق وحده أن يقدم المبررات الكافية للجندي كي يضحي بحياته في سبيل وطنه ، أو كي يضحي الشاب بمستقبله وهو يهتف ضد مستعمره ، أو أن يقاوم الضعفاء الظالمين الأكثر منهم عدداً وقوة . إن ما يفعل ذلك المشاعر التي نرسخها في وجدان أبنائنا في الصغر ، ونصقلها داخلهم وهم في مرحلة المراهقة ، ونجني ثمارها من إبداعات ، وتضحيات ، وبطولات في مرحلة الرشد والكبر ، وتصبح عبر الزمن أقوال مأثورة نهتدي بها بعد موت أصحابها وحكماً تشكل وجداننا الوطني ، والقومي ، والحضاري أيضاً .