قراءة نفسية في بعض الأعمال الشعرية الدوافع النفسية في رباعيات چاهين (1) ( العبد للشهوات منين هو حر )

هل يمكن أن نستشف حاجات المبدع ودوافعه النفسية من إنتاجه الإبداعي ؟. هذه محاولة نخوضها مع قارئنا الكريم ، من خلال الإبحار في رباعيات صلاح چاهين الغنية ، لكشف النقاب عما يختبيء بين قواقع سطورها سطورها من دوافع نفسية حبيسة.

وسيكون مرشدانا في هذا البحر الواسع ، عالماً النفس البارزان ( مصطفي سويف ) و ( ابراهام ماسلو ) ، فسوف نسترشد بنظرية الأول في منشأ العبقرية وبنظرية الثاني في مدرج الحاجات ، لتنيرا لنا الطريق لنبحث في ضوءيهما عما دفع بچاهين ليلقي بجواهره الثمينة في بحر الرباعيات العميق ، وإذا كان النقاد قد حاولوا مراراً أن يلقوا بشباكهم المدربة ليلتقطوا بها هذه الجواهر ، فسنحاول نحن بدورنا ، وبأستخدام عدسات علم النفس المكبرة ، أن نلتقط بعض الصور لهذه القواقع آملين أن نمهد لباقي الرحالة الطريق للكشف عما تحويه من كنوز.

تفترض نظرية ( د. سويف ) أن منشأ الإبداع يكمن في وجود حاجة لدي المبدع لاستعادة توافقه مع الآخرين. فبسبب اختلاف قيم الفنان عن قيم المجتمع الذي يحيا فيه ، وتباين حاجاته عن حاجاتهم – تنشأ بينه وبين الآخرين حواجز ، يحاول أن يحطمها من خلال عرض وجهة نظره علي قرائه عبر عمله الإبداعي ، محاولاً استمالتهم إلي صفة ليعود التوافق بينه وبينهم من جديد.

وانطلاقاً من هذا التصور ، يبرز أمامنا السؤال الآتي : ما هي الحاجات النفسية التي لم تشبع لدي چاهين ، وكانت سبباً في نشآة الصراع بين ذاته المتفردة وذوات الآخرين ، والتي كشفت عن نفسها في رباعياته الشهيرة ؟.

       الإجابة عن هذا السؤال بقدر أهميتها ودلالتها بقدر صعوبتها ، وتعقد مسالكها ، والسبب تعدد وتشعب الحاجات والدوافع التي يمكن استشفافها من هذه الرباعيات. والحل الذي يفرض نفسه علينا الآن هو الاسترشاد بنظرية عالم النفس ( ابراهام ماسلو ) في الدوافع ، كبوصلة مرشدة ، توجه خطانا ، وتوضح لنا معالم الطريق.

يشير ( ماسلو ) إلي أن هناك خمسة أنواع أساسية من الحاجات النفسية لدي الإنسان وهي : الحاجات البيولوجية ( مثل الحاجة إلي الغذاء والشراب والجنس والنوم ) ، والحاجة إلي الأمان والانتماء ، والحاجة إلي الحب ، والحاجة إلي التقدير ، والحاجة إلي تحقيق الذات. وهذه الحاجات تنتظم في ترتيب هرمي من أسفل إلي أعلي بحيث أن ما يقع منها في أسفل الهرم ( مثل الحاجات البيولوجية ) يكون أكثر الحاحاً وطلباً للإشباع عن تلك التي تكون في أعلي الهرم كالحاجة إلي التقدير من الآخرين مثلاً.

وطالما أن الحاجات البيولوجية هي الأكثر الحاحاً ، فستكون هي أول ما سنسلط عليه عدساتنا – في هذا المقال – محاولين أن نلتقط ما يختبيء داخل قواقع الرباعيات من حاجات غير مشبعة ، أما باقي الحاجات فسنخصص لها مقالات قادمة … ولنبدأ الإبحار.

أول شيء يقرره چاهين أن شهوات الإنسان شيء لا يجب انكاره ، لأنها جزء متأصل في الإنسان ، وجزء من تكوينه الطبيعي الذي لا يملك منه مفراً :

} العبد للشهوات منين هو حر {

وبهذه البداية يضعنا الشاعر علي أول عتبات المشكلة وهو جانب الجبر الذي تمليه علينا شهواتنا ، وهو ما يتسق وما يقرره ماسلو في هذا الصدد في إشارته إلي أن حاجاتنا البيولوجية هي أكثر الحاجات الحاحاً وطلباً للإشباع ، ويعطي لها الإنسان أولوية الإشباع مقارنة بغيرها من الحاجات.

وبعد أن يقرر الشاعر ذلك ، يعلن اتفاقه مع الآخرين في أن الشهوة تحمل تناقضاً محيراً ، ففيها مرض الإنسان وفي الوقت نفسه شفاؤه ، فإن كان في الحاحها سم ، ففي إشباعها الدواء الشافي :

} السم لو كان في الدوا … منين يضر

والعبد للشهوات منين هو حر  {

ومن هنا تأتي ضرورة. عدم تجاهلها ، خاصة وأنها تشغل حيزاً كبيراً من تفكير أي إنسان وليس تفكير الشاعر فحسب :

} ولاحد بيفكر في غير لذاذاته {

حتي هذه النقطة لم يتطرق چاهين إلا لجوانب الاتفاق بينه وبين الآخرين ، وإقرار الجميع بالحاح اللذة عليهم ، إلا أن الصدام بين أناه وأنا الآخر يبدأ في الظهور عندما يتصل الأمر بإشباع هذه اللذة. فالآخرون – في نظر الشاعر – يجهلون الوظيفة الاجتماعية للجنس ، ويقصرون نظرتهم إليه علي وظيفته البيولوجية فقط ، ومن ثم يفصلون بينه وبين الحب فصلاً متعسفاً رغم أن الجنس والحب وجهان لعملة واحدة ، ويشبعان حالة وجدانية واحدة.

ويصيح الشاعر عندئذ مطالباً بأن نكف عن إنكار حاجاتنا البيولوجية ، وأن نكف كذلك عن الربط الجائر بين إشباع اللذة والخطيئة. ثم يتساءل إلا يجب أن نخفف من تجريمنا لهذا السلوك علي نحو ما نفعل مع باقي الكائنات الحية ؟

} حدوته عن جعران وعن خنفسه

اتقابلوا حبوا بعض ساعة مسا

لا قال لهم حد اختشوا عيب حرام

ولا حد قال دي علاقة متدنسة {

وچاهين هنا لم ينظر إلي علاقة الجعران بالخنفسة باعتبارها علاقة جنسية – رغم أن هذا ظاهرها – بل اعتبرها علاقة حب ، وهو بهذا لا ينظر للجنس باعتباره مجرد سلوك بيولوجي بل يعتبره سلوكاً اجتماعياً في الأساس ، ويؤكد بذلك أن الجنس مظهر طبيعي للحب نتقبله في حالة الحيوان بدون أي نظرة تحريم ، ثم نصفه في حالة الإنسان وصفاً بيولوجياً دون أن نكسبه صفاته الاجتماعية الأخري ، وهو أنه علاقة بين أثنين يتبادلان مشاعر وجدانية مشتركة ، تثير لدي كل منهما حالة من اللذة المشتركة.

وإن كان الآخرون يعتقدون أن حجب مصادر اللذة عن الإنسان هي أفضل وسيلة لمنعه عن الوقوع في الخطيئة ، فإن هذا وهم كبير ، لأن الطبيعة نفسها – بكل مظاهر الجمال فيها – هي منبع الاثارة الاصلي :

} ياللي ناهيت البنت عن فعلها

قول للطبيعة كمان تبطل دلع {

فلو تمكن الأنسان من السيطرة علي نفسه ، فهل ينجح في التحكم في الطبيعة ، ومصادر اثارتها التلقائية ؟.

إذن الحل هو أن نفهم المعني الحقيقي للذة لدي الإنسان ، والأهداف المأمولة من إشباعها ، فكبح جماح اللذة لن يتأتي بقتل المشاعر ، ووضع مزيد من المحاذير علي السلوك ، وفرض القيود علي مثيرات اللذة ، ولكن السبيل إلي ذلك هو احترام الإنسان لوجدانه ، والتعبير الحر عن مشاعره ، وبعد ذلك ستكون ضوابط الإشباع لديه نابعة من الداخل لا من الخارج :

} لا تجبر الإنسان ولا تخيره

يكفيه ما فيه من عقل بيحيره

اللي النهارده بيطلبه ويشتهيه

هو اللي بكره ح يشتهي يغيره {

أن الإنسان في نظر چاهين جزء من الطبيعة والمجتمع ، فهو ليس جسداً فقط ولا روحاً فقط بل هو :

} روح في بدن في وطن {