قراءة في كتاب : ” علم اللوع .. أضخم كتاب في الأرض “
ما المقصود بعلم اللوع ؟ وما هو تاريخه ، وموضوعاته ، ومنهجه ؟ وما أهم مفاهيمه ومصطلحاته ؟ وتطبيقاته ؟ ، وما صفات المشتغلين به ؟ والأهم من ذلك كله ما علاقته بالعلوم الأخرى ( كعلم السياسة ، وإدارة الأعمال ، والقانون .. إلخ ) ، وما علاقته – علي وجه الخصوص – بعلم النفس ، والفلسفة ؟ . هذه بعض الأسئلة التي نبحث عن إجابة عنها في كتاب الإنسانية المفتوح . ولكن بداية احكي حكايتي مع هذا العلم القديم الجديد .
إن ما آثار اهتمامي بهذا العلم الواسع ثلاثة مصادر أساسية :
المصدر الأول : حوار دار بيني وبين أحد المرضي النفسيين ، كنت أحدثه خلاله عن ضرورة أن يكون مرناً وهو يتعامل مع زوجته وأصدقائه حتي يحل مشكلة سوء توافقه معهم . وأثناء ذلك أوضحت له فائدة أن يبادر بقول كلمة طيبة لزوجته حتي ينهي الخلافات المفاجئة التي قد تنشب بينهما ، وأن عليه أن يتعلم بعض المهارات الاجتماعية التي يستطيع من خلالها الحفاظ علي أصدقائه ، وكسب المزيد منهم . ومن بين المهارات التي أكدت أهميتها ، اللباقة ، والمجاملة الاجتماعية ، والتحكم في الإنفعالات السلبية ، وإظهار الود للآخرين ، إلي آخر هذه المهارات التي تندرج تحت ما نسميه نحن السيكولوجين بالذكاء الإجتماعي ، وقبل أن أنهي كلامي معه صرخ محدثي في ” أنت بتعلمني إزاي أحل مشاكلي ولا بتعلمني اللوع ” استوقفني تعليقه ، وآثار اهتمامي خاصة وأن هذا التعليق شهره في وجهي – بتعبيرات أخرى – كثير من الأصدقاء وأنا أقدم لهم النصيحة ، لكيفية حل مشكلات شبيهة بما كان يؤرق مريضنا السابق .
المصدر الثاني الذي آثار اهتمامي بعلم اللوع ، هو حديث آخر دار بيني وبين أحد الأصدقاء ، ولكن كان الموضوع في هذه المرة عن علم النفس والفلسفة وأهمية كل منهما بالنسبة للفرد والمجتمع . في هذا السياق أيضاً ، وعند نقطة حاسمة من النقاش صاح في وجهي صديقي وهو منفعلاً قائلاً : ” إن علم النفس علم برجوازي ، تستخدمه الطبقة البرجوازية لتبرر بها أفعالها من ناحية ، ولتقنع الفقراء بتقبل القهر الواقع عليهم من ناحية أخرى . إن علم النفس هو صناعة برجوازية في الأساس هدفها الأكبر تغييب وعي الشعوب ” . ورغم فهمي للمعني الذي كان يرمي إليه صديقي إلاّ إنني شعرت بصورة من الصور أنه يكرر نفس مقولة صاحبي المريض النفسي ، فهو يعتقد إن علم النفس أداة للخداع والمراوغة ، ( أو بلغة صاحبنا المريض آداة للوع ) ، ولكن في هذه المرة لا يُستخدم علم النفس لخداع الأفراد ، ولكن يُستخدم لخداع الشعوب .
ويتمثل المصدر الثالث – السابق تاريخياً علي المصدرين المذكورين أعلاه – في رباعية الشاعر الكبير صلاح چاهين ، التي بقيت محفورة في ذاكرتي منذ أن قرأتها وأنا في المرحلة الثانوية ، والتي قال فيها :
} علم اللــوع أضخم كتاب ف الأرض
بس اللي يغلط فيه يجيبـــه الأرض
أما الصراحة فأمرها ساهــــــل
لكن لا تجلب مال ولا تصون عرض {
وأملاً في فهم علاقة علم النفس بعلم اللوع ، قررت أن أفتح كتاب اللوع الذي أشار إليه چاهين لأقرأ فيه قبل أن أسوق دفاعاتي عن علم النفس ، وابرأه من تهمة الخداع والتدليس .
وكتاب علم اللوع مثل أي كتاب ضخم ، تعرف متي تبدأ في قراءته لكنك لا تعرف متي تنتهي منه ، خاصة إذا كان بكل هذا الحجم الذي أشار إليه چاهين. ولذلك قررت أن تكون قراءاتي فيه انتقائية ، علي نحو يوفر لي حداً أدني من الإلمام بهذا العلم الواسع . وللقارئ الكريم أقدم بعض ما قرأته فيه بعين السيكولوجي المدربة علي قراءة السلوك قبل الكلمات . أملاً في أن يشاركني قارئي في سبر غور هذا العلم بالغ القدم . ولنبدأ بالتعريف .
تبين رباعية الشاعر الكبير صلاح چاهين أن علم اللوع يمكن تعريفه بأنه ” علم الغموض المقصود ، والصراحة الغائبة أو الملتوية ، والمهارة المرتكزة علي اللعب علي أكثر من حبل . ويؤدي إتقان الفرد لقوانين هذا العلم إلي تحقيق أهدافه النفعية ، والوصول بها إلي بر السلامة ، بصرف النظر عن الجانب الأخلاقي المتصل بهذه الأهداف ” .
أما الأشخاص العاديون فينظرون إلي هذا العلم باعتباره علم تحقيق المصلحة الشخصية بكل الطرق الممكنة ، المشروعة ، وغير المشروعة من خلال المراوغة في المواقف التي تتطلب ذكر الحقيقة ، أو اللعب علي متناقضات الغير ، أو السباحة في اتجاه التيار طلباً للسلامة ، وفي عكس اتجاه التيار طلباً للشهرة والمزايدة علي الآخرين.
وعن تاريخ هذا العلم يؤكد الشاعر الكبير صلاح چاهين أن عمره من عمر البشرية ، فهو ” أضخم كتاب في الأرض ” . وتؤكد الشواهد مقولة الشاعر الكبير ، فإطلالة سريعة علي تاريخ المؤمرات الكبرى التي عرفتها الإنسانية ، يؤكد ما لهذا العلم من جذور عميقة . فلم يسلم الأنبياء أنفسهم من العيش مع أناس كانت حرفتهم الأساسية تعليم وتعلم هذا العلم الواسع . ولعل في قصة النبي يوسف مع إخوته ، والمسيح الطاهر مع يهوذا ، والرسول الأمين مع اليهود ، خير أمثلة علي عمق تاريخ هذا العلم .
ولأن لكل علم منهجه وأدواته التي من خلالها يمكن تحديد الخطوات والإجراءات اللازمة للوصول إلي الأهداف المنشودة ، فإن علم اللوع هو الآخر له منهجه وأدواته. ولكن ما يميز هذا العلم عن غيره من العلوم أن طرائقه وأدواته تتغير بتغير مستخدميه ، والسياق الذي يستخدم فيه . فإستخدامه في الحياة اليومية مثلاً يحتاج إلي استراتيجيات مختلفة عن تلك التي يحتاجها استخدامه في سياق العمل .
ففي سياق الحياة اليومية ، يستخدم المواطنون العاديون – من المتمرسين في علم اللوع – الكذب بجميع ألوانه ( كالكذب الأبيض ، والكذب الأسود ، والكذب الرمادي ) كاستراتيجية حاكمة لسلوكهم ، وأدواتهم في إدارة مواقف اللوع تعتمد علي الإعلام الخفي ممثلاً في النميمة بمختلف أنواعها ، الحميدة ، أو الخبيثة ، أو البين بين .
أما في سياق العمل ، فإن العاملين في مختلف الأجهزة الحكومية ، يعتمد أسلوب عملهم في الأساس علي استخدام استراتيجيات اللوع المناسبة لطبيعة العمل الحكومي والتي من بينها : النفاق ، والتملق ، والمحسوبية ، مع قليل أو كثير من الانتهازية ، وأدواتهم في إدارة الأزمات هي الإعلام الخامد ، المتمثل في التقارير السرية للرئيس عن الفريسة ، والابتسامة الباردة في وجه الضحية .
أما العاملون في القطاع الخاص والاستثماري المتقنون لعلم اللوع فيعتمد منهجهم علي التفاني في العمل في مرحلة التعلم ، وخيانة الأمانة ، والضغط المنظم علي الآخرين ، وإملاء الشروط ، في مرحلة الإتقان والتفوق . وأهم الأدوات المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف هي : الإعلام الكامن ، والذي ينشط أو يخمد حسب متطلبات الموقف ، حيث يعتمد علي ” الضرب المنظم تحت الحزام ” في بعض الأحيان أو الغضب الفاضح والتشهير في أحيان أخرى .
أما الصفوة من المثقفين وكبار المسئولين ، فتعتمد استراتيجيات اللوع لديهم علي الخداع المهذب ، والسير في عكس ما تشير إليه أصابعهم ، والسباحة السريعة في اتجاه التيار ، للمساومة والتفاوض ، وأدواتهم هنا في إدارة الصراعات هي الإعلام الظاهر ، المكتوب ، والمسموع ، والمرئي .
بعد هذا التمهيد الذي قدمنا من خلاله المقصود بعلم اللوع ، وتاريخه ، ومنهجه ، واستراتيجياته وأدواته ، بقي أن نتقدم خطوة للأمام للإجابة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً وهي الخاصة بفلسفة هذا العلم ، وعلاقته بباقي العلوم الأخرى ؟ وهو موضوع المقال القادم .