صناعة الأعداء وتلوث البيئة النفسية
من يتجول في ” مصنع إنتاج الأعداء ” يجد عديداً من الماكينات التي لا تنتج سوي مشاعر الكراهية والضغينة. وألتزاماً بحدود تخصصي كسيكولوجي ، لم أقترب – في مقالي السابق – من الماكينات الاجتماعية العملاقة ( مثل ماكينات الفقر ، والبطالة ، والفروق الطبقية .. إلخ ) القادرة علي إنتاج عديد من المشاعر السلبية ليس فقط بين الأفراد والمواطنين ، ولكن بين الجماعات والشعوب ، كل ما فعلته هو أنني تناولت بالتحليل أربع ماكينات سلوكية ( هي : الجليطة الاجتماعية ، ونقد الآخرين ، والاستفزاز ، والثأر والأنتقام ) ، رأيت أنها رغم بساطة حجمها ، مقارنة بالماكينات الاجتماعية العملاقة – سابقة الذكر ، إلا أنها شديدة التأثير في حياتنا اليومية ، فهي قادرة علي ملء السياق الاجتماعي الذي نحيا في ظله بمشاعر الغل ، والكره ، والعداء. وعن التلوث النفسي الناتج عن عمل هذه الماكينات الأربع يدور حديثنا الراهن.
إذا ما حللنا الأبحرة المتصاعدة من الماكينات الأربعة محل اهتمامنا ( الجليطة ، والنقد ، والأستفزاز ، والأنتقام ) ، سنجدها مليئة بعديد من ملوثات البيئة النفسية للأفراد ، منها : فقدان المتعة والسعادة ، وفقدان الشعور بالأمان ، وفقدان الشعور بالحب ، والعجز عن تحقيق الذات ، ومتي أنتشرت هذه الأبخرة في سماء أي مجتمع ، فإنها تسمح لملوثات اجتماعية أخري عديدة في إنتاج مشاعر سلبية أكثر تعقيداً مثل المشاعر المرتبطة بالأغتراب ، وفقد الانتماء ، والعنف ، ونفي الآخر فضلاً عن إصابة البنية النفسية التحتية لأي مجتمع بالخلل والاضطراب.
ويعد فقدان المتعة والسعادة أول ما يجنيه الشخص من إيذائه المتعمد لمشاعر الآخرين باستخدامه للجليطة أو الاستفزاز أو النقد الساخر كآليات حاكمة لتفاعله معهم. فيصعب التواصل السوي بين الأفراد في ظل ما تولده هذه الآليات من مشاعر سلبية. فالإنسان يسعد عندما يفصح عن مشاعره الشخصية للآخرين ، وعندما يتصرف بتلقائية معهم ، وعندما يشاركونه اهتماماته وأنشطته ، وعندما ينجح في تقديم صورة واضحة عن نفسه لهم ، وعندما يتلقي عونهم ، ومساندتهم. وللأسف تتحطم كل هذه المشاعر إذا طعن الفرد الأخرين بخناجر جليطته أو صوب عليهم سهام نقده ، أو أطلق عليهم قنابل الاستفزاز المثيرة لمشاعر الكراهية.
من ناحية أخري إذا أبقي الفرد علي كلابه الخاصة لحراسة ما لديه من مشاعر ثأر وانتقام تجاه الآخرين فيكون ذلك بداية لفقدانه الشعور بالأمان ، حيث تعمل هذه المشاعر علي خلق حالة مستمرة من التحفز ، والترقب ، والتوتر ، مع إضمار الغدر للآخرين ، وتوقع الغدر منهم.
ولأن الحب والكراهية لا يجتمعان ، فإن الفرد إذا دعم داخله المشاعر السلبية تجاه الآخرين ، فإنه يفشل في إشباع حاجته إلي الحب ، وبالتدريج يفقد الغرباء طمعاً في الأصدقاء ، ثم يفقد الأصدقاء اعتماداً علي الأبناء والأقارب ، ثم يفقد الأقارب طمعاً في حب الذات ، ثم يفقد احترام الذات و يترك نفسه لمشاعر الوحدة والاكتئاب.
فمن يترك الآخرين سعياً لكسب الأنا كمن يدور في حلقة مفرغة ، فيجمع المتخصصون إن الإنسان في حاجة دائمة إلي المساندة الاجتماعية سواء أخذت هذه المساندة صورة المساعدة ، أو النصيحة ، أو الفهم ، أو التوجيه ، أو الحماية ، أو التصديق علي قول أو فعل. كما أنه في حاجة إلي تأييد الآخرين لارائه واتجاهاته وتفضيلاته ، وفي حاجة إلي اهتمام الآخرين بالدفاع عن مصالحة ، والمحاولة الايجابية لمساعدته علي النجاح. فإذا ما غرس الإنسان مشاعر الكره بينه وبين الآخرين عامداً متعمداً ( لتحقيق هدف نوعي أو هامشي ) ، أو غرسها عن غير عمد ( نتيجة تجاهله لتنمية مهاراته الاجتماعية اللازمة لتوافقه الاجتماعي ) ، فإنه يلوث بذلك بيئته النفسية ، وبيئة الآخرين الاجتماعية.
وعلي هذا إذا لم تشبع حاجات الفرد الأساسية ( كحاجته للأمان والانتماء ، والحب ، وتقدير الذات ، وتحقيق الذات ) فإن بيئته النفسية تصبح أكثر تعرضاً للتلوث ، فعينه لن تري إلا عيوب الآخرين ، وفمه لن يلوك إلا الاتهامات لهم ، وأذنه لن تسمع إلا اعتراضاتهم عليه ، وأنفه لن يشم إلا روائح الخيانة و المؤامرات التي تدبر له ، ويده بدلاً من أن تلمس مشاعر الآخرين بكل رفق وحنان ، تتركها للأقدام كي تدهسها ، أما القلب فيصبح مضخة للكراهية ، ونبع للأنانية.