سيكولوجية المكان

يؤكد د. جمال حمدان .. بحسه الجغرافي المتميز – أن لكل مكان شخصيته المتفردة ، ولكل بقعة جغرافية عبقريتها الخاصة ، يحدد قدرها في الأساس موقعها علي الخريطة. وفي مقابل ذلك يؤكد علماء النفس أن للمكان خصوصية نفسية متميزة ، وللمسافات الفاصلة بين الأفراد معان وجدانية متنوعة ، ولملكية المكان دلالات متعددة ، فقد تكون هذه الملكية حقيقية ( بموجب القانون الوضعي ) ، أو تكون اعتبارية
( بموجب القانون السلوكي ). وعن هذه الدلالات والمعاني يدور حديثنا في هذا المقال.

الإنسان لا يحيا في فراغ .. هذه حقيقة يقرها الجميع ، ولكن السؤال الأهم أي قدر من الفراغ يحتاجه الإنسان حتي لا يشعر بالضيق النفسي ممن حوله ( سواء أكان ما يشغل هذا الفراغ بشر أم جمادات )؟ ، وإلي أي قدر يسمح الفرد باختراق الآخرين للحيز الجغرافي الذي يحيط به ؟. هذا الموضوع يدرسه علماء النفس تحت اسم ” الحيز الشخصي ” ، ويقصدون به في هذا السياق ” المنطقة التي تحيط بالفرد مباشرة ، والتي تتم – في إطارها – معظم ضروب تفاعله مع الآخرين ” ، وبمعني أكثر تفصيلاً المكان المحيط بالجسم والذي يستثير اقتراب شخص آخر منه استجابة وجدانية سارة أو كدرة.

وعادة يستثير انتهاك الحيز الشخصي للفرد من قبل الآخرين ردود أفعال سلبية من قبله ، ما لم يكن لهذا الانتهاك ما يبرره ، فطبيب الأسنان ، والحلاق ، والخياط ، قد يخترقون حيز الفرد الشخصي دون أن يثير ذلك أي نفور لديه. أما الالتصاق الزائد به في المصعد الكهربائي أو وسائل المواصلات ، فهي قد تستثير لديه عديد من الاستجابات السلبية.

والسؤال الآن الذي يفرض نفسه علينا هو : إلي أي حد يحترم كل منا الحيز الشخصي للآخري ؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج منا إلي كثير من التأمل. فالبعض يعتبر اختراق الحيز الشخصي للآخر نوعاً من التودد المطلوب ( أو باللغة الدارجة
عشم ) ، والبعض يعتبر أن احترام الحيز الشخصي للآخر يضفي علي التفاعل  الاجتماعي نوعاً من الرسمية ، ويفقد العلاقة تلقائيتها. والبعض الثالث يري أن اختراق الحيز الشخصي ضرورة في بعض الأحيان. فكيف يراقب الوالدان أبنائهما ما لم يتعدوا علي بعض خصوصياتهم الشخصية.

ومن ثم نصادف كثيراً من مظاهر الانتهاك المتبادل بين الأفراد للحيز الشخصي الخاص بكل منهم سواء نظرنا إلي هذا الحيز بمعناه الفيزيقي الضيق أو نظرنا إليه بمعناه الأوسع الذي يضم تحته احترام خصوصية الآخر.

فكثير من المشاحنات الزوجية ، والخلافات بين الأصدقاء يكون منشئوها انتهاك أحد الأطراف لخصوصية الطرف الآخر ، في ظل اختلاف نظرة كل منهما لما هو خاص وما هو عام. فكثيراً ما تتعجب الزوجة من غصب زوجها عندما ترتب له الأوراق التي علي مكتبه دون استئذانه ، وكثيراً ما يندهش الزوج من استياء زوجته من فتحه لحقيبتها الشخصية. أيضاً يعتبر بعض الآباء أن التفتيش في أشياء أبنائهم الخاصة حق مطلق وضروري دون أن يعوا أن هذا الحق مشروط بقدر والاستقلال الممنوحة لأبنائهم ، وقدر احترام الأبناء لهذه الثقة.

أما مظاهر اختراق الخصوصية بين الغرباء ، فأمثلتها كثيرة ومتنوعة منها أن يشاركك من يجاورك الجلوس في إحدي وسائل النقل العام في قراءة الجريدة التي تقرأها ، أو الكتاب الذي تتصفحه ، وقد يصل الأمر أن يحملق البعض في أوراقك الخاصة طالما كانت مفتوحة علي نحو مقروء ، والمثير للدهشة أنهم قد يريدون معك حواراً طويلاً حول ما تقرأه.

ويتخذ بعض المذيعين من الأقتراب المبالغ فيه من المتحاورين معهم وسيلة للتودد إليهم إلا أن الأمر قد يأتي بنتائج عكسية فيؤدي هذا الأقتراب إلي إثارة انفعالات الضيف ليس بسبب الموضوع محل النقاش الدائر بينهم ولكن بسبب انتهاك الحيز الشخصي للضيف علي نحو مكدر.

وإذا كان انتهاك الحيز الشخصي ( الذي يتصل بالمساحة المحيطة بالفرد ) يؤدي إلي عديد من ردود الأفعال السلبية فإن الأمر نفسه نجده في حالة انتهاك الملكية الاعتبارية للمكان ، أو ما يعرف اصطلاحاً بأسم ” المكانية ” ويقصد المتخصصون بهذا المصطلح ” تعامل فرد ما ( أو جماعة ) مع منطقة جغرافية معينة باعتبارها ملكاً خاصاً به ، وبالتالي فهو يستغل المكان لأغراضه الخاصة ويدافع عنه ضد أي تعد عليه من جانب الآخرين. ويطالبهم أن يعترفوا به بهذا الحق.

وما يميز التوجه التملكي عن الملكية الحقيقية للمكان هو عدم تمتع الفرد أو الجماعة في الحالة الأولي بحق قانوني إزاء هذا المكان. وإنما يكتسب هذا الحق من تكرار شغل الفرد للمكان لمدة طويلة ، والجهد الذي يبذله في الاحتفاظ بهذا المكان لمدة أطول.

وتتعدد مظاهر هذه الملكية علي نحو كبير والأمثلة علي ذلك كثيرة منها : تكرار جلوس الطالب علي إحدي المقاعد داخل حجرة الدرس بالمدرسة أو الجامعة ، ومعاملته لهذا المقعد باعتباره ملكاً خاصاً له. فإذا ما جلس عليه غيره ادعي علي الفور أنه يخصه وإن لم يستجب المعتدي عندئذ تبدأ مظاهر الصراع بينهما والاتهامات المتبادلة. والأمر نفسه تفعله بعض جماعات النشاط بالجامعة ( الأسر الطلابية ) فغالباً ما تتخذ كل جماعة مكاناً ما مقراً لها ، يتجمع فيه أعضاؤها ، ويعلنون علي جدرانه عن أنشطتهم. وبالطبع لا يسمحون لأحد بأن يتعدي علي ملكيتهم لهذا المكان. وفي أمثلة مشابهة نجد أن ساكني العمارات يطالب بأن يعترف له بأحقيته في شغل مكان محدد من الساحة المواجهة للعمارة ” ليركن ” فيها سيارته الخاصة ، وقد يلجأ إلي إقامة مظلة خاصة للسيارة علي نفقته ليؤكد من خلالها هذا الحق في الملكية. وهناك أيضاً من يزرع نباتات أمام منزله ، ثم سرعان ما يحيطها بسور ويعتبرها جزءاً خاصاً به ، تحت دعوي الرعاية والاهتمام المنظم بها. أضف إلي كل ما سبق ما يفعله الباعة المتجولون الذين يحتل كل منهم مكاناً خاصاً من الرصيف يعرضون عليه بضاعتهم ، هذا فضلاً عن مغتصبي الأراضي ، تحت دعوي طول فترة وضع اليد علي الأرض ، ومغتصبي الدول تحت دعوي الأحقية التاريخية للمكان.

وكما هو واضح تتباين دوافع الملكية الفردية أو الجماعية فيما سبق طرحه من أمثلة ، فمرة تمثل هذه الملكية جزءاً من العوامل الوجدانية المهيئة لممارسة النشاط العقلي علي نحو جيد ( كما في حالة المقعد الخاص بالطالب في قاعة الدرس أو
المنزل ) ومرة أخري تقف كنوع من الإعلان عن الهوية الخاصة ( مثلما هو الأمر في حالة جماعات النشاط الجامعي ) ، ومرة ثالثة يدفع إلي المطالبة بالأحقية في المكان دعم جوانب وجدانية سارة ( مثل شغل المحبين لمكان محدد في أماكن التنزه كالحدائق والمتنزهات ) ، وفي مرة رابعة يرجي من الملكية إحداث نوع من التنظيم للبيئة الفيزيقية التي يتعامل معها الأفراد تجنباً لنشوء الصراعات ( مثل حالات ” ركن ” السيارات أمام المنازل ، أو تنظيم الباعة المتجولين للأماكن المتاحة من أرض السوق لعرض بضاعتهم ) ، وفي بعض الحالات يقف وراء الملكية رغبة استحواذية لدي الأفراد أو الجماعات ( مثل التعدي علي الأراضي المملوكة للدولة بوضع اليد ) ، أو يقف وراءها دوافع إيديولوجية خبيثة ( كادعاء إسرائيل مثلاً باحقيتها في أرض
فلسطين ).

وإذا لم نميز بين الدوافع المختلفة للملكية الاعتبارية فإن الأمر سوف يختلط في الأذهان. حيث إن بعض مظاهر الملكية الاعتبارية من الواجب احترامها ، وبعضها الآخر ليس كذلك ، بل يتطلب الأمر فيه المقاومة والتحدي. سواء أكانت هذه المقاومة تتم في ضوء القانون الوضعي ، أم في ضوء القانون السلوكي. ونحن نعتبر أن تمييزنا بين الدلالات النفسية الذاتية للمكان والدلالات الموضوعية له هي أولي الخطوات في طريق تحديد الاستجابة الملائمة لمواجهة انتهاك الخصوصية الفردية.