سرطان الأفكار : كيف نحاصره

في معرض حديثه عن العلاقة بين التفكير الإبداعي والتفكير الناقد ، شبه بارنز ( عالم النفس الأمريكي ) من يستطيع إنتاج عديد من الأفكار الجديدة والمتميزة دون القدرة علي ترشيدها ، وتقييمها ، ووضعها في إطار له معناه ودلالته بمن لديه سرطان في الأفكار.

والمعني الذي قصده العالم هو ضرورة العناية بتنمية قدراتنا علي التفكير الناقد جنباً إلي جنب مع قدراتنا علي التفكير الإبداعي. فالقول الشائع بأن الإبداع سلوك يعتمد علي الحرية المطلقة في استخدام الخيال ، ولا يخضع لأية ضوابط أو قيود قول لا يعكس بدقة طبيعة السلوك الخلاق الذي هو توازن متناغم بين استخدام الخيال ( لتوليد عديد من الأفكار الجديدة المتنوعة ) واستخدام التقييم ( للحكم علي هذه الأفكار واختيار أفضلها وأكثرها ملاءمة ) ، فالإبداع ليس ” ثرثرة ” بفكرة وراء الأخري دون أي حكم أو تقييم ، بل إن التداعيات المبدعة يساويها في الأهمية القدرة علي اتخاذ القرارات واختيار أفضل البدائل والأفكار. والتفكير الإبداعي ، بهذا المعني ، هو تفكير حر وموجه في آن واحد ، تتضافر خلاله قدرات الفرد الإبداعية والناقدة للوصول إلي أفضل صيغة يرتضيها المبدع لإنتاجه الوليد.

والأدلة علي صدق هذه النظرة ، بينها عديد من الدراسات التجريبية ، وأيدتها كذلك الشواهد الواقعية المستمدة من ممارسات المبدعين. فالتخيل والتقييم عمليتان متلازمتان يمارسهما المبدع باستمرار أثناء مسار العملية الإبداعية ، واذا كان المبدعون يركزون علي دور الخيال في الوصول لإبداعاتهم فإن تحليل النشاط الإبداعي يكشف ما للتقييم من دور مهم أيضاً. فما التوقفات العديدة التي يقوم بها الشاعر ليعيد قراءة بعض ما كتب من أبيات قصيدته ، أو ليضيف لفظة هنا أو هناك إلا توقفات بغرض التقييم ، وهي ما نجد لها صوراً مناظرة لدي الفنان التشكيلي ، والموسيقي ، والعالم ، والمخترع.

من ناحية أخري تتلاقي الشواهد السابقة مع ما توصل إليه علماء الفسيولوجيا العصبية بتأكيدهم حتمية حدوث تكامل دينامي بين نصفي المخ أثناء العملية الإبداعية. فلابد من أن ينشط – معاً – كل من الشق الأيسر ( الذي يختص بالعمليات المتصلة باستخدام اللغة ، والتحليل ، والمنطق ) والشق الأيمن ( مصدر التخيلات والأحلام والتفكير المجازي واستخدام الصور والتركيب ) أثناء العملية الإبداعية ، فمن لدية فقر في المثيرات اللازمة لاستثارة الشق الأيسر من المخ ، أو عطب في جزء كبير منه تضعف قدرته علي استخدام العمليات المنطقية والتحليلية ، فيفشل في تقييم الأفكار أو الحكم عليها ، وعلي العكس من لديه عطب أو فقر في المثيرات اللازمة لاستثارة الشق الأيمن من المخ تضعف قدراته علي التفكير المجازي والخيالي ويصبح أقل ميلاً لخلق الترابطات الجديدة التي يتطلبها الإبداع والاختراع وحل المشكلات.

ولأن التوازن الدينامي بين العمليات المتقابلة هو أحد المباديء الأساسية التي تميز الحياة في مظاهرها المختلفة. فإن التفكير الإبداعي لايشذ عن ذلك ، فكما أن الوردة تتفتح في الصباح وتأفل في الليل ، والبحر يتدفق ثم ينحسر ، والرئة تنقبض ثم تنبسط ، فإن التفكير يخضع كذلك لتلك الدورة ، فالتخيل يتبعه التقييم والحكم ، وتوليد الأفكار يتبعه وصع الخطط الملائمة لتنفيذ الحلول.

وكما أن خلايا الجسم إذا ما نمت بصورة جامحة ، وعشوائية ، تصبح خلايا سرطانية مؤذية ، فالأفكار بالمثل إذا ما استمر الفرد في طرحها دون التوقف لتقييمها والحكم عليها ، فإنه يفشل في الاستفادة منها واستخدامها بصورة فعالة وهو الأمر الذي يجب أن يلتفت إليه المربون علي مختلف أنواعهم ، فعنايتهم بتدريب النشء علي التفكير الخيالي يجب أن يصاحبه تدريب أيضاً علي التفكير الناقد وتقييم ما ينتج من أفكار. وكما يسعون إلي حماية أبنائهم من فقر الدم وسرطانه عليهم أن يحموها كذلك من فقر الأفكار وسرطانها.