دعوة حقيقية للاستمرار في اللعب

كثيراً ما يتساءل الآباء والمدرسون والمربون علي مختلف أنواعهم ، عن معني لعب الطفولة ، وكيف لهم أن يدفعوا بمركب أطفالهم الورقية إلي شاطيء الإبداع ، وعلي الطرف الآخر يشكو المبدعون العظام من الحنين إلي لعب الطفولة ، ويرون في جلسات الإبداع فرصة لاستحضار هذا العالم السحري ، بخيالاته ومشاعره الحرة الطليقة. وما بين تساؤلات الآباء وحنين المبدعين ، انبري عديد من الأقلام يحاول أن يرسم الخطوط الفاصلة وتلك المتشابكة التي تحدد العلاقة بين اللعب والإبداع.

فآثار التشابه بين لعب الأطفال وإبداع الراشدين اهتمام عديد من المفكرين والعلماء بمختلف تخصصاتهم ، ووصل الأمر بفيلسوف مثل ( شيللر ) إلي القول بأن اللعب هو أصل كل الفنون. أما علماء النفس فلم يتوقفوا عند رصد هذا التشابه فحسب ولكنهم حاولوا الاستفادة منه في تنمية قدرات الأفراد الإبداعية ، مستفيدين من اللعب التخيلي في تنشيط التفكير الخلاق ، وتحرير الذات من قيود الواقع المتصلب.

وقد ظل أهل الاختصاص يبحثون عن إجابة شافية للسؤال الملح الذي ظل يطرح نفسه دائماً عليهم وهو ما يتعلق بأوجه الشبه بين لعب الطفل وإبداع الراشد وكيف يمكن توجيه هذا التشابه بما يخدم طرفي هذه العلاقة ؟ وقد جاءت الإجابات عن هذا السؤال عديدة ومتنوعة ، فهناك من أرجع هذا التشابه إلي الوظيفة التي يحققها كل من اللعب والإبداع لصاحبه ، علي أساس أن كلاً النشاطين وسيلة لتصريف فائض الطاقة ، وكلاهما نشاط حر تلقائي ، لا يبتغي منه سوي المتعة الخالصة ، والشعور بالسرور والارتياح المجرد من أي هدف أو غاية. وهناك من رأي أن كلاً من الطفل والفنان يختلق عالماً خاصاً به ، يعيد فيه ترتيب ما حوله من أشياء بطريقة جديدة تعود عليه بالرضا والسعادة ، وهو يتعامل مع هذا العالم بمنتهي الجدية ، فيضفي علي عناصره وأحداثه مقداراً كبيراً من مشاعره وعاطفته ، وعلي الرغم من هذه المشاعر ، يظل مدركاً للحدود الفاصلة بين الواقع والخيال.

وكما هو واضح ليس المقصود من الإبداع في هذا السياق المعني الضيق الذي يقصر هذا المفهوم علي الإبداع الفني فقط ، بل علي العكس ، ما نقصده هنا هو المعني الأرحب لهذه الكلمة ، وهو المعني الذي يستخدمه علماء النفس حين يعرفون الإبداع ، والذين لا يفرقون بمقتضاه بين إبداع في مجال الفن ، وآخر في مجال العلم ، وثالث في مجال الحياة اليومية ، فالوظائف النفسية المتطلبة لإبداع قصة تتشابه وتلك المتطلبة لإختراع آلة جديدة أو طهي نوع جديد من الحلوي. وكل هذه المظاهر علي تنوعها ما هي إلا تجليات للإبداع تقوم وراءها مجموعة متشابهة من الوظائف النفسية.

وعلي هذا فإن الدور الذي يقوم به اللعب في الفن ، يقترب في دلالته من الدور الذي يقوم به اللعب في العلم. فكل من الفنان والعالم والمخترع يحتاج إلي اللعب بالخيال والأفكار كي يصل إلي مبتغاه. والشاهد علي ذلك أن كل المخترعات كانت نتاجاً للعب الوهمي بالأفكار قبل أن تظهر للوجود في صورة منتج ملموس. فما الطائرة – بالنسبة للمخترع – إلا مجرد تصور خيالي لآلة تسير ضد الجاذبية. تصور استمد المبدع مادته من الطبيعة ، حين وجد في أجنحة الطيور وحركتها مثالاً للتغلب علي مقاومة قوي الجاذبية.

ويستخدم الطفل والفنان اللعب الوهمي بطريقة متشابهة إلي حد كبير ، علي نحو يجعلهما يتجاوزان بخيالهما حدود الواقع ، ليخلقا عالماً جديداً من صنعهما ، عالماً تصبح فيه العصا حصاناً يمتطي ، والقمح ذهباً متلألئاً والحب سهلاً قاتلاً.

والأطفال ، أثناء هذا النوع من اللعب ، يتناولون عناصر بيئتهم بصورة تعكس إلي حد كبير فهما تقنياً لما يزخر به عالم الأشياء من حولهم من قوانين ، وهو ما نلحظه في بعض ممارساتهم وتجاربهم التي يجرونها لحل بعض المشكلات التي تعوقهم أثناء اللعب ، فأثناء بنائهم لكوبري أو نفق من الرمال علي شاطيء البحر ، أو صناعتهم لطائرة من الورق ، فإنهم يستخدمون كثيراً من النظريات والمفاهيم العلمية دون أن يدروا ، ويقومون بتجارب أشبه بتجارب العلماء في معاملهم ، ويتعلمون كثيراً من العمليات بالمحاولة والخطأ.

وبهذا المعني نلحظ أن الإبداع هو الصورة الناضجة للعب ، وأن إبداع الراشد هو محاولة لاستحضار عالم الطفولة ، بخيالاته ومختلف إيهاماته ، مع وضع هذه الخيالات تحت السيطرة والتحكم الواعي. فإذا ما تأملنا – في النهاية – هذا المعني قد نجد بعض الإجابات عن أسئلة الآباء ، وبعض التفسيرات لحنين المبدعين لطفولة. وقد نجد أيضاً دعوة صادقة للإستمرار في اللعب.