دروع في وجه الصراع لا عنف لا تعاون

رغم أن مبدأ غاندي الشهير ( لا عنف لا تعاون ) ، الذي رفعه شعاراً للثورة الهندية ضد المحتل الانجليزي ، لا زال يثير جدلاً حول فعاليته في حل النزاعات بين الشعوب ، فإن كاتب هذه السطور يري ولو علي سبيل الفرض – أنه يصلح أن يكون مبدأ سيكولوجياً يمكن بمقتضاه الحفاظ علي الصحة النفسية ، وحمايتها من الاستفزاز اليومي ، الصادر عن كل من يمتهن مهنة صناعة الأعداء.

فللاسف ، يواجه الكثيرون منا عنف الآخرين تجاههم ، بعنف مماثل من جانبهم ، مهما كانت تفاهه الموضوع المتنازع عليه ، وغالباً ما يفعلون ذلك تحت شعار ” المعاملة بالمثل ” ، فتكون النتيجة الوقوع في دائرة الانتقام الخبيثة ، التي لا تولد سوي الكراهية بين الناس. ومن هنا تأتي أهمية استعارتنا لمبدأ غاندي ، ومحاولتنا اختبار درجة فعالية العمل به في حياتنا اليومية.

فمبدأ غاندي – في صياغته السيكولوجية – يدعونا ببساطة إلي عدم الاستسلام لانفعالاتنا السلبية ونحن نواجه عداء الآخرين تجاهنا ، وكل ما علينا عمله هو الأمتناع عن التعاون معهم في كل ما يتعلق بالموضوع مصدر الخلاف بيننا ، وحينئذ ننتظر إلي أن يستجيب الآخر إلي مطالبنا المشروعة ، أو علي الأقل أن يتوقف عن عدوانه علينا ، ويلجأ للتفاوض السلمي لحل النزاع القائم بيننا.

فالتحاور بطريقة استفزازية ، أو بأنفعال زائد ، أو بصوت مرتفع ، أو بلغة جارحة للمشاعر ، قد يكون عدواناً غير مقصود ، يصدر عن الفرد بشكل غير إرداي ، ودون وجود مبررات موضوعية واضحة لإثارته ( حيث العدوان هنا يكون أسلوباً مميزاً للشخصية ) ، أو قد يكون عدواناً مقصوداً ، يهييء له الشخص العدواني الظروف المتطلبة لإثارته.

وفي تصورنا لن يفيد مواجهة أي من هذين النوعين من العدوان بأثارة سلوك عدواني مقابل. بل قد يكون من الأجدي تنفيذ الشق الثاني من مبدأ غاندي ، والألتزام بمبدأ الـ ” لا تعاون ” . وهو يعني هنا التوقف عن إكمال الحديث مع من يستفزك أو يصرخ في وجهم أو يجرحك بأقبح الألفاظ ، ثم الأنتظار إلي أن يعدل الآخر من سلوكه ، ويحاول أستراضائك ( إذا كان يكن لك أي قدر من التقدير ) ، أو أن يحد هو نفسه من حجم التفاعل معك ، وهو ما قد يكون خير لك.

أما من يخطط لإهانتك أو إيقاع الأذي بك ، فأستجابتك لعدوانه بالعدوان يشحن بطاريات العداء لديه ، فيتطاير شرر الأذي ، فيصيبك ويصيبه. أما إذا توقفت عن مواجهة العداء بالعداء فستتيح الفرصة للآليات الاجتماعية الأخري أن تقوم بدورها. كأن يسعي الناصح ، والعاتب ، واللائم بينكما لمد الحبال المقطوعة.

ولا يعني التوقف عن العنف في معالجة الخلافات ، المهادنة والتنازل عن الحقوق ، بل العكس هو الصحيح ، فكل صاحب حق يجب أن يجاهد من أجل الدفاع عن حقه ، ولكن بأستخدام العقل ، والحجة ، والمنطق ، وليس بأستخدام الأنفعال ، والغضب ، والعداء. فالشخص السوي هو القادر علي الدفاع عن حقوقه دون تعمد العدوان أو السعي إليه ، حتي لو بدأ سلوكه الظاهر أمام الآخرين عدوانياً. فقد يعتبر الشخص الذي أمنعه من أن يأخذ دوري في طابور ما إنني عدواني تجاهه ، ولكنني في الواقع لست كذلك ، فأنا أمنعه فقط من أن يتعدي علي حقي ، والدليل علي أني لا أناصبه العداء ، أنني علي أستعداد أن أناصره ، وأقف بجانبه ، إذا ما واجه هو نفسه محاولات تعدي علي دوره في الطابور نفسه من قبل شخص آخر. ومن هنا يأتي تمييز السيكولوجيين بين توكيد الذات والعدوان ، فيعرفون توكيد الذات بأنه مهارة الفرد في الدفاع عن حقوقه الشخصية ، والتعبير عن مشاعره الإيجابية والسلبية دون عدوان.

من ناحية أخري لا يعني عدم التعاون أن يقطع المرء صلته بكل من ينشأ بينه وبينهم خلاف. فهذا عكس المطلوب تماماً ، لأنه سوف يقطع الأوصال بين الناس بدلاً من تقويتها ، إن المقصود بعدم التعاون ، معني أعم من ذلك بكثير ، إنه يعني الرفض بكل صوره ، إنه رفض الخضوع لمنطق الآخر في إدارة النزاع بطريقة اصطدامية ، وهو رفض الاستجابة للاستفزاز بالاستفزاز ، وهو رفض للهمجية والسلوك الانفعالي العشوائي ، وهو رفض للتفاعل في ظل شروط لا يقبلها أحد طرفي النزاع. كما أنه – من زاوية أخري – يعني حماية كرامتك ، وإنسانيتك ، وصورتك عن ذاتك ، ضد من يحاول خدشها بدفعك إلي الاستجابة علي نحو لا ترضي عنه.

وتعد من أهم الآليات التي تساعد في وفاء الفرد بهذا المبدأ بشقيه الـ ” لا عنف ” والـ ” لا تعاون ” آليه الترفع عن الصغائر. فما أسهل أن ينشأ خلاف بين أثنين بسبب عدم ترفع أحدهما علي صغائر الأمور ، فتجد خلافاً متكرراً في وسائل النقل العام ينشب بين أثنين حول من أحق بالجلوس علي الكرسي من الآخر ، وأعتبار هذه القضية قضية كرامة ، أو تجد سائق تاكسي يتشاجر مع زبونه حول ” نصف جنيه ” فرق في تقدير كل منهما للأجرة المستحقة ، قد يكون هذا الشجار له معناه لو تعلق الأمر بأستغلال واضح ، ولكن في الأمور التقديرية لا يجوز أن يمتد الخلاف إلي العنف المتبادل ، بل يجب أن يتنازل أكثر المتخاصمين تعقلاً للآخر ، فليس في هذا نوع من المهادنة ، بل إنها درجة أكبر من إحكام العقل في معالجة الأمور التقديرية. ولكن العناد والتحدي يدفعان الفرد في كثير من المواقف إلي استنزاف طاقته في محاربة أعداء وهميين.

ويتضح مما سبق أنه رغم بساطة مبدأ ” لا عنف ، لا تعاون ” ، فمن الصعب العمل به ما لم يكن الفرد قادراً علي ضبط انفعالاته ، وماهراً في توكيد ذاته ، وعقلانياً في نظرته للأمور ، وموضوعياً في حكمه عليها ، ومرناً في تحقيق أهدافه ، ورحيماً بضعف الآخرين.