حكومة العقل وحكومة الدولة

لكل منا حكومته الخاصة ، مقرها العقل ، ونطاق نفوذها السلوك الإنساني ، أما مهمتها الأساسية فهي إدارة أمور حياتنا النفسية. وعلي الرغم من كثرة شكاوي المواطنين من حكومة الدولة ، وتعدد طلبات الإحاطة من نواب الشعب ، فمن النادر أن يعلن الأفراد عن شكواهم من أنفسهم ، ومن الأسلوب الذي يديرون به دولة عقولهم.

ووعي الفرد بأسلوب تفكيره أمر غاية في الأهمية ، لارتباط ذلك – غالباً – بأي أساليب الحكم السياسي سوف يرتضيها ، فتفترض بعض بحوث علم النفس المعاصر أن تفضيلات الأفراد لأسلوب معين في الحكم ، تتفق – غالباً – وأسلوب تفكيرهم. فمن يضع القيود علي حرية أفكاره ، غالباً ما يفضل حكماً ديكتاتورياً لبلاده ، أما من يطلق لها العنان فالأرجح أن يفضل حكماً ديموقراطياً حراً.

ويعرف أسلوب التفكير في هذا السياق بأنه طريقة الفرد الخاصة في الإدراك والتفكير وحل المشكلات ، وهو أيضاً الاستراتيجيات العقلية المميزة لتعامله مع عناصر بيئته الخارجية ، ويشار إلي هذه الأساليب أصطلاحاً بأسم الأساليب المعرفية.

وعلي هذا الأساس يدير العقل حياتنا النفسية من خلال حكومة مركزية ، شعبها هو الأفكار ، وأعداؤها المتربصون بها هم المشكلات ، سواء أكانت مشكلات حياة يومية أم كانت مشكلات تطبيقية : فنية أو علمية أو تكنولوجية.

وقد لاحظ عالم النفس المتميز ( سترنبرج ) أن الأفراد يتباينون في أسلوب إدارتهم لحكومة لحكومة العقل ، وتنظيمهم لـ ” شعب الأفكار ” المشاكس ، ومن ثم قسم أساليب التفكير وحل المشكلات إلي أربعة أنواع تبعاً لتعددية الأهداف المنشود تحقيقها ، وقدر المرونة في انجازها وهي : أسلوب ملكي ( أحادي الاتجاه والأهداف ) ، وأسلوب كهنوتي ( مرتب الأهداف والمقاصد ) ، وأسلوب أوليجاريكي ( متعدد الغايات المتصارعة ) ، وأسلوب فوضوي ( متشعب غير محدد الأهداف ). وأفترض أن كل نمط من هذه الأنماط في التفكير تميز فئة من الأفراد عن غيرها من الفئات.

فيسعي أصحاب الحكم الملكي للعقل إلي تحقيق هدف واحد ، يعملون من أجله لمدة طويلة ، ويسخرون كامل طاقتهم العقلية لإنجازه ، ويلزمهم هذا بنظرة أحادية للمشكلة والحل ، ويعتبرون الأفكار الجديدة دسائس تهدد مملكة الفكر. أما أصحاب الحكم الكهنوتي المنظم ، فيضعون صوب أعينهم عديد من الأهداف ، يرتبونها تبعاً لأولوياتها في الأهمية ، ويتناولون كلاً منها علي نحو مستقل ، بطريقة منظمة ومتسلسلة ، وفق قواعد وقوانين محددة. ويكونون ميالين عند أداء أعمالهم إلي الدقة مع الكفاءة ، والنظام مع المجاراة ، والسيطرة مع الحذر.

ويسعي كذلك أصحاب أسلوب المصلحة الشخصية ( الاوليجاريكي ) في حكم العقل إلي تحقيق عديد من الأهداف في آن واحد ، ولكنهم لا يميزون بينها من حيث الأهمية ، فتتصارع داخلهم الأفكار ، وتتشعب اتجاهاتهم ويضطرون في النهاية إلي وضع الأولويات كارهين ، وهو ما يضعف فعالية إنتاجهم إذا ما فشلوا في السيطرة التامة علي أفكارهم.

والاتباعيون من أصحاب أي أسلوب من الأساليب الثلاثة السابقة يتسمون بقبولهم الخاضع للواقع. فعندما يواجهون إحدي المشكلات فإنهم يبحثون عن الحل المتفق مع القواعد التي أقرتها الجماعة التي ينتمون إليها ، ويستمدون أفكارهم منها ، ويفضلون أستخدام الحلول الجاهزة ، فإن لم تتوفر ، فإنهم يلجأون إلي إدخال التحسينات علي ما هو موجود من قبل.

وهم يعتمدون في إدارة موقف حل المشكلة علي السلطة التنفيذية أكثر من اعتمادهم علي باقي أنواع السلطات ( كالسلطة التشريعية أو القضائية ) فلا يشرعون قوانيناً جديدة لإدارة المواقف الجديدة ولا يفحصون الدلائل ليكتشفوا خبايا هذه المواقف.

وعلي النقيض من ذلك يأتي التحرريون ( الليبراليون ) من أنصار الحكم الفوضوي للعقل ، فهؤلاء كثيرو الأعتراض علي القواعد المألوفة ، والقوانين الراسخة ، دون وجود بديل واضح لديهم لكيفية حل المشكلة. فيرحبون بالأفكار الجديدة ، ولكنهم يعجزون عن وضع خطة محددة لتنفيذها ولذلك يواجهون المشكلات بطريقة شديدة العشوائية.

إلي جانب أساليب الحكم السابقة هناك أسلوب خامس لم يلتفت إليه ستيرنبرج ، ولم تعطه الإنسانية القدر الكافي من الاهتمام ، ألا وهو أسلوب الحكم الإبداعي ، فأصحاب هذا الأسلوب يستخدمون نظاماً خاصاً في الحكم ، فيه من الأسلوب الملكي الثقة في الذات ، والمعايشة الطويلة للأفكار الغنية ، ومن الأرستقراطية عدم الخضوع للآراء الغوغائية للأكثرية ، ومن الفوضوية التحرر من القواعد والقوانين السطحية ، ومن الديموقراطية تكامل سلطات العقل ( التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية ) ، ومن الثورية السعي للتغيير الجذري لكل ما أثبت عدم فعالية.

فيتصف أصحاب هذا الأسلوب في التفكير ، بأنهم خياليون ، لهم أفكار غير معتادة ، ومستقلون في آرائهم ، وغير مجارين للجماعة التي ينتمون إليها ، وإن كانوا قادرين علي بلورة أهدافها ، كما أنهم واثقون في أنفسهم وفيما يقدمونه من حلول للمشكلات ، ويستطيعون التحكم في عملياتهم النفسية إذا ما واجهوا موقفاً غامضاً ، أو مشكلة غير تقليدية. وعندما يتصدون لحل المشكلات ، ينظرون إلي المشكلة من مختلف زواياها ويضعون القواعد والقوانين اللازمة لمواجهتها ، ويتحررون من أي إدراكات أو عادات أو تصورات سابقة عند البحث عن الحل ، ويقدمون في النهاية حلولاً جديدة ، وغير مألوفة.

ومن ثم إذا كان مختلف أنظمة الحكم ، الملكية ، والإقطاعية ، والأستقراطية ، والدكتاتورية ، والديموقراطية ، تلقي أنتقادات عديدة من الشعوب التي تحكم بها ، فهل نطمح في نظام للحكم جديد نطلق عليه معاً أسم أسلوب الحكم الإبداعي ؟ …. هذا أمل قد يتحقق إذا ما تغير أسلوبنا في التفكير.