تعلم الإبداع وتنميته هل يمكن تعلم الإبداع ؟

يثير السؤال المعنون به المقال الراهن عدة إجابات متباينة ، فيتشكك البعض في إمكان تعلم الإبداع وتعليمه ، في حين يقدم البعض الآخر من الشواهد ما يؤكد إمكان ذلك ، أما البعض الثالث فإنه يتحفظ علي السؤال برمته ، مع أنه يأمل في أن يكون اكتساب الإبداع أمراً ممكناً.

ويسوق المتشككون في إمكان تعلم الإبداع مبرراً أساسياً يشهرونه في وجه خصوصهم ، ويعتبرونه كافياً لتبرير موقفهم ، ويتلخص هذا المبرر في اعتقادهم أن الإبداع عملية لا إرادية في الأساس ، ولا تخضع للتحكم الواعي سواء من قبل المبدع أم من قبل الملاحظ الخارجي. وفي غياب الإرادة والتحكم يكون الحديث عن تعلم الإبداع – في رأي هؤلاء – حديثاً لا طائل منه.

وبعد اتفاق هؤلاء المتشككين في السبب الكامن وراء تشككهم ، فإنهم يتباينون بعد ذلك في الشواهد التي يقدمونها لدعم هذا الاعتقاد. فيري بعضهم أن الإبداع موهبة فطرية مزود بها الإنسان منذ ولادته ، وبالتالي فإن تأثير البيئة ، وعمليات الاكتساب ، في تشكيل هذه الموهبة أمر ضعيف الأحتمال. ويقف في صف هؤلاء المتشككين أنصار نظرية الإلهام في الفن ، والذين يرون أن المبدع يبدع تحت تأثير قوة خفية ، لا إرادة له فيها ، ولا سلطان له عليها. هذه القوة روج لها قديماً أفلاطون – في حديثه عن شيطان الشعر الذي يملي علي الشاعر أبيات قصيدته – كما آمن بها الشعراء العرب القدامي ، واستسلموا لها. أما الفنانون المحدثون فلا زالوا يعلون من تأثير هذه القوي الخفية ، سعياً لتأكيد تفرد تجربتهم وتميزها عن تجارب غيرهم من البشر.

أما الفئة الأخيرة من المتشككين فدليلهم علي عدم خضوع الإبداع للإرادة الواعية ، هو شيوع تعاطي بعض المبدعين للمسكرات والمخدرات للتحرر من قيود الوعي ، وقيود العالم الخارجي.

وفي مقابل المتشككين المتشائمين ، يأتي الواثقون المتفائلون من أنصار الرأي القائل بإمكان تعلم الإبداع ، وهؤلاء يرون أن الإبداع ظاهرة سلوكية ، قابلة – كباقي الظواهر السلوكية – للتعلم والتدرب ، بحيث يمكن تنشيط العملية الإبداعية لدي الأفراد والجماعات علي حد سواء. وتدعم الدراسات المعاصرة لعلم النفس هذه الوجهة من النظر. فيفترض المتخصصون في هذا المجال أن الإبداع يقوم علي مجموعة من الخصال المعرفية والوجدانية والدافعية ، التي توجد لدي جميع البشر ، لكن بنسب متفاوتة ، تحدد الوراثة حدودها القصوي ، ثم تحدد البيئة بعد ذلك مقدار ما يظهر منها فعلياً. فيقتصر دور الوراثة هنا علي تحديد قدر ما لدي الأفراد من استعدادات إبداعية ، ورصيدهم منها ، ولأن الأفراد لا يستغلون عادة هذا الرصيد الكامن من الاستعدادات
( سواء أكانت قدرات عقلية أم خصالاً شخصية ) فإن عمليات التعلم ، وإجراءات التدريب ، من شأنهما افساح الفرصة لهذه الاستعدادات الوراثية المهملة أن تكشف عن نفسها.

وبعد دحص أقوال أنصار الموهبة المتشككين في إمكان تعلم الإبداع ، ينتقل المتفائلون إلي المتشككين ( من أنصار الإلهام ) ليكشفوا لهم عن ضعف منطقهم. ويعتمدون في ذلك علي توضيح أن العملية الإبداعية ليست كلها إلهام ، فيسبق لحظات إشراق الأفكار في رأس المبدع ( والتي تسمي إلهاماً ) ، تحضيرات عديدة يقوم بها حتي يهييء لعقله السياق النفسي الذي يسمح بتدفق الأفكار في رأسه. أيضاً أثناء لحظات الإشراق ( أو الإلهام ) نفسها يبذل المبدع جهوداً عديدة حتي يسيطر علي حركة الأفكار التي تزحم بها رأسه ، وتقييم ما ينتجه منها بعد ذلك ، ويستمر هذا التقييم إلي ما بعد انتهاء الدفقة الانفعالية نفسها. وفي كل مرحلة من المراحل السابقة ، يكون للجهد الإرادي الواعي دوره المهم ، رغم عدم إدراك المبدع له في لحظات حدوثه.

حتي هذه النقطة نجدنا أمام طرفين متناقضين في نظرتهما لإمكانات تعلم الإبداع. طرف متشكك ، علي نحو متشدد ومقيد للآمال ، وطرف متفائل ، طموحه يفوق ثقته فيما أنجزه. وبين هذين الطرفين يأتي المتحفظون. وهؤلاء يعترضون علي المبالغات التي تغمر قضية تعلم الإبداع ، سواء أكانت من المتشائمين أم من المتفائلين ، ولذلك يرفضون صياغة السؤال علي نحو يجعل الإجابة عنه بنعم أو لا ، ويفضلون بدلاً من ذلك صياغة مثل إلي أي حد يمكن التأثير في خصال الأفراد الإبداعية ؟ في ظل أي سياق ، وباستخدام أي الأساليب أو الوسائل ؟ حتي نصل إلي إنتاج إبداعي متميز ؟ وأي الأفراد أكثر قابلية للتعلم ؟

وتسمح هذه الصياغة الأخيرة بوضع حدود لطموحات المتفائلين ، ووقف الأحكام السلبية المطلقة للمتشائمين. فهي تقدم إطاراً واسعاً من الاحتمالات لإمكان تعلم الإبداع ، وتنبه إلي الشروط التي يجب توفرها حتي يتحقق التعلم المنشود ، سواء اتصلت هذه الشروط بالفرد نفسه ( كاستعداداته الوراثية مثلاً ) ، أم اتصلت بالبيئة الاجتماعية المحيطة له ( من حيث تصلبها أو مرونتها مثلاً ).

ويتضح مما سبق أن الظاهرة الإبداعية ، ظاهرة متعددة الجوانب ، وتعلم الإبداع عملية أعمق من مجرد تنمية القدرات العقلية أو التأثير في الخصال الشخصية ، فهي منظومة واسعة ، تتحدد من خلال خبرات الفرد وقيمه وأسلوب حياته ، بما يسمح له بتكوين نظرة متفردة للعالم من حوله ، وبلورة موقف متميز من الحياة. ومتي نجح الفرد في تكوين هذه الرؤية الخاصة ، يجيء دور توظيف القدرات العقلية والخصال الشخصية للتعبير عن هذه الرؤية.