الدوافع النفسية في ” شتاء ” الأبنودي ( للضلام المجد .. للضباب الخلود )
هل يمكن استشفاف الدوافع النفسية للشاعر من خلال تحليل أشعاره ؟ ، سؤال حاولنا الإجابة عنه في مرة سابقة من خلال الغوص في البحار العميقة لديوان الرباعيات للشاعر الكبير صلاح چاهين وكان أملنا البحث عن الدوافع الحبيسة داخل قواقع الأشعار . واليوم نعاود الكرة ، ولكن مع قمة أخري من قمم الشعر العامي في مصر ، وهو الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي ، ومع ” ديوان ” من أهم دواوينه ، وهو ديوان ” الفصول ” . وقد وقع اختيارنا علي هذا الديوان – خاصة – لأنه مثل رباعيات چاهين ، قصائده يجمع بينها خيط شعوري واحد ، وكأنها قصيدة واحدة طويلة ، تجتمع بين أبياتها شتي المشاعر ، جنباً إلي جنب ، في تآلف فريد .
والفرض الذي نختبره هنا هو توقع وجود حاجات نفسية عميقة تدفع بالفنان عموماً ، والشاعر علي وجه الخصوص ، إلي أن يبدع أعماله أو يكتب قصائده ، ليتخلص من التوتر النفسي الذي يولده عدم إشباع هذه الحاجات لديه . فكما أن الشخص الجائع إذا ما سيطرت عليه الحاجة إلي الطعام ، يتملكه التوتر ، فيسعي إلي البحث عن وسيلة لإشباع حاجته والتخلص من التوتر ، فإن الشاعر كذلك تسيطر عليه حاجات معينة ، فيندفع إلي محاولة التخلص منها بأن يكتب قصيدته ، مرة لتقليل وطأة التوتر الناجم عن هذه الحاجة ، ومرة أخرى ليشرك الآخرين ( أي القراء ) في هذه المحنة ، عله يجتذبهم إلي تبني موقفه ، فيتخلص معهم من محنته ، ويخلصهم من محنهم الشبيهة.
وقد تكون الحاجات النفسية المسيطرة علي الشاعر من النوع العام الذي يوجد لديه بقدر ما يوجد لدي غيره من مبدعين ، لكونه جزء أساسي من مقومات الإبداع ، مثل حاجته للتقبل من قِبل الآخرين ( الحاجة للنحن ) أو حاجته لإصلاح ما يحيط به
( الحاجة للإصلاح ) .. إلخ ، أو أنها تكون من النوع الخاص والنوعي ، والتي تتعلق بحالة المبدع النفسية وقت كتابة القصيدة ، كحاجته للحب أو الأمان النفسي ، أو الانتماء ، أو غير ذلك من الحاجات النفسية .
وفي ضوء تعريف الحاجة النفسية بأنها ” شعور الفرد بنقص شئ معين ، يستثير لديه نوعاً من التوتر ، يدفعه إلي فعل كل ما من شأنه أن يقلل من حجم هذا التوتر ” ، فإننا في الأسطر القليلة القادمة سنبحث في ديوان ” الفصول ” للأبنودي لنتعرف – من زاوية المتلقي – علي تلك الأشياء التي نفترض أنها قد تكون سيطرت عليه أثناء كتابته لقصائد الديوان ، وسنُقصر حديثنا هنا علي قصيدتي ” الشتاء ” المنشورتين في الديوان المذكور .
الشتاء في هاتين القصيدتين ، هو الرياح التي هبت علي نفْس الشاعر فأثارت دوافعه ، وأشاعت التوتر بداخله . فاستثارت حاجته للآمان . وهي الحاجة التي نعتقد أنها سيطرة علي مشاعره عبر جميع أبيات القصيدتين .
ففي القصيدة الأولي ، هاجم الشتاء الشاعر ، بوجه جامد بلا مشاعر :
} بارد .. خاوي العينين {
عنيف الخُطي :
} رجليه تقال يا صحابي متسلسلين {
جاهلاً متجشماً :
} تركي غشيم الشناب {
ومزوداً بقوي البطش اللازمة لإظهار قوته :
} بارد عريض الكف كالسجان
يمشي في ميدان المدينة ف بدلة الددبان {
وهو ما يجعله مزهواً بنفسه ، غير مبالي بما يفعله في الآخرين :
} يغني تحت المطر {
ومزهواً كذلك بقوته ، معلناً دائماً عن سطوته وجبراته ، ورافعاً شعار :
} للضلام المجد ، للضباب الخلود {
أما في قصيدة الشتاء الثانية فهو أكثر عنفاً وتربصاً بفريسته ، فيتمكن من أصابتها في مقتل :
} بَعت رصاصة في الوشوش واصطاد ..
نفذ رصاصه في الجلود للقلب {
ولأن فرض القوة يتطلب دائماً تحطيم قوة الخصم ، لذا يبدأ الشتاء هجومه العنيف ، والشرس بالبطش :
} بسن كفه يقصنا كالرغيف {
} يعصر سنين العمر من وسطاني {
ولدعم سطوته ، يثير الفرقة بين المتآلفين ، ويقضي علي جميع مظاهر التجمع :
} نبقي صحاب من بعيد { ،
} ما فيش نفْس في الحي {
} كل واحد لواحده . {
ولترسيخ مشاعر الفرقة يحجب المعرفة عن الجميع ، فيعيشون في جهل دامس :
} لا أيد صديق ع الباب
ولا نعرف البدر في الدروب أو غاب {
ولمزيد من الفرقة والتجهيل
} يطفي الكلام ، واللمة ، والنيران ، وشعلتين العين { .
وإذا اجتمع البطش ، مع الفُرقة ، مع التجهيل ، تبدأ مشاعر الوحدة تتسرب إلي النفوس ، ويتسرب معها الخوف :
} نترعش في الأوض ، ونرتعش ف الجلود {
ويتسرب معه القلق :
} شباكي رايح جاي .. رايح جاي .. ما يخلنيش أنعس {
ولا تبقي هناك قوة للمواجهة :
} ندّاري في الغطيان – نتاوي ف الجدران {
فيُصاب الجميع بالشلل :
} يتشل كل الكل {
وبالتدريج تسكن الأشياء ، وجميع مظاهر الحياة . ولا يبقي سوي الوحدة التي تستثير الحاجة للآمان والأمن .
} تخرس الراديوهات – تسكت عيال الجيران {
والمتأمل للموقف يجد العالم في حالة من الخمود أو الموت المؤقت :
} كإنه ماتت .. شمس .. صهد .. عرق .. مروحة .. نسمة .. ضل {
وكذلك :
} كإنه مات القمح والأجران .. المصطبة والقمر .. شط البحور .. إسكندرية الصيف {
ومع هذا السكون لا يبقي سوي صوت ريح الشتاء السامة وثلجه القارس :
} ريحك نيبان تعبان براوي
تلجك سواط هّجاني بتمزّع وبتداوي {
ويعلن الشتاء عن سطوته ، فيرفع الشعارات التي تخلد مجده ، وتؤكد استمراره الأبدي :
} للضلام المجد ، للضباب الخلود {
ومن ثم فإن الشتاء بسطوته وقوته وحيلته يستثير لدي الشاعر مشاعر الوحدة ، والقهر ، والجهل ، والخوف ، والقلق ، وهي المقومات الأساسية للشعور بعدم الأمان .
ولأن أية حاجة نفسية يجب أن تُشبع بدرجة ما ، حتي يستطيع الإنسان أن يستمر في توافقه مع الحياة ، لذا يسيطر علي الشاعر شعور غامر بأن إشباع حاجته للأمان لن تتم إلاّ بالتغلب في البداية علي مصادر توتره ، ومن ثم وجد الشاعر في المعرفة ، والأمل ، والتلاحم والتكاتف ، أدوات مناسبة لمواجهة ما سببه الشتاء من جهل ، وفرقة ، ووحدة بداخله .
فبالمعرفة يستبصر الفرد بحقيقة الذات ، ويدرك أسباب توتره :
} في اللحظة دي أشرف ما في الإنسان
هو اللي يقدر يلمح الكلمات جواه بتتعذب {
ويدرك الباطن من وراء الظاهر ، فيقاوم حالة الجهل التي يحاول أن يفرضها الشتاء ، فإذا كان الشتاء قادراً علي إيهامنا بعدم وجود النور في الكون ، مما يجعلنا :
} لا نعرف البدر في الدروب أو غاب{
فإن بالاستبصار الحقيقي يمكن أن نري :
} في العتمة خيط الضي {
وندرك :
} إن نجم الليل عيونه كبار .. وإنه مالي الدنيا نور في البرد {
أما الأمل فهو كفيل بأن يحدد لنا هدفنا :
} نشفت عروقنا في الخلا العريان
وأحنا بنحلم بالربيع الجاي {
} بنستني ورق الربيع لأخضر علي الأغصان – والصبح والدفيان {
وبالتلاحم بين الأنا والآخر ، تقهر الوحدة ، ويهون البطش ، ويخمد الخوف ، ويذوب التوتر :
} بردك في كل ما يقسي فوق الأرض .. احنا بنحضن بعض
بندفي بعض ببعض كل ما زاد علينا البرد {
} وأنت حوالينا .. بنكون بقينا جنب بعضينا ،
بنكون في قلب بعضينا .. نلقي الدفا فينا {
} أنفاسنا بتدوب تليج الرعب {
إذن صرخة الشاعر تعلن أن حاجته إلي الأمان سببها القهر ، والجهل ، والوحدة ، والخوف ، وإشباعها لن يتأتي إلا بالاستبصار بحقيقة الذات ، وبالتلاحم وعدم الفرقة ، وبالأمل في الغد . وهذه الصرخة ، يطير مع دويها سؤال : هل ما يشعر به الشاعر من حاجة للآمان والأمن ، هو شعور فردي خاص به وحده أم أنها حالة عامة تجمع بينه وبين قرائه ، أو بمعني أعم يسأل الشاعر : هل ما أشعر به أنا هو نفسه ما تشعر به أنت ؟ . هذه هي الرسالة الدائمة التي يرسلها أي فنان عظيم إلي جمهوره العريض .