الدوافع النفسية في رباعيات چاهين (3) ( أكون أنا المحبوب أو لا أكون .. تلك هي المشكلة )
هذه ثالث محاولة لنا للغطس في بحار رباعيات چاهين العميقة. بحثاً عن الدوافع الحبيسة داخل قواقع الأشعار. فبعد أن كشفنا عن حاجات الشاعر الحسية مرة ( العبد للشهوات منين هو حر ) ، وعن حاجاته للأمن والأمان مرة أخري ( لو كنت عارف مين أنا كنت أقول ) ندخل اليوم مغارة ثالثة تحت مياه الرباعيات سريعة الحركة لنبحث عن حاجة الشاعر إلي الحب ، ولنلتقط صوراً مكبرة للمشاعر الدقيقة المركبة ، ولنبدأ الإبحار.
الحاجة إلي الحب والأنتماء – فيما يري عالم النفس الشهير ( إبراهام ماسلو ) – هي ثالث الحاجات الحاحاً علي الإنسان بعد الحاجات البيولوجية والحاجة إلي الأمان ، والشخص الذي تسيطر عليه هذه الحاجة يشعر برغبة ملحة في الانتماء إلي الآخر والارتباط به ، كما يشعر برغبة جارفة في أن يلقي القبول من الآخرين ، وأن يبادلهم المشاعر الوجدانية.
وتسيطر هذه الحاجة علي الشاعر سيطرة كبيرة ، إلي حد أنها أصبحت ملازمة له طيلة حياته وأصبح إشباعها هدفاً مأمولاً بالنسبة للشاعر ، حتي لو لاقي في سبيل ذلك أشكالاً من العذاب :
} أنا الذي عمري اشتياق في اشتياق
قصدت نبع السم وشربت سم
من كتر شوقي وعشمي في الترياق {
فالمصدران الأساسيان للسعادة في هذه الدنيا هما الحب ، والفرح.
} أحسن ما فيها العشق والمعشقة ،
وشويتين الضحك والتريقة {
وهذا هو ما يجعل نفس الشاعر تفيض دائماً بما تختزنه من حب ، باعتباره سر الحياة الخفي.
} أوقات أفوق ويحل عني غبايا
وأشعر كأني فهمت كل الخبايا
وأفتح شافيفي عشان أقول الدرر
ما أقولش غير حبة غزل ف الصبايا {
ويحاول الشاعر أن يكتشف أسباب الإلحاح الشديد لهذه الحاجة عليه ، فيجد أول ما يجد أن الحب هو المصدر الأكبر لسعادته ، حتي لو كان هذا الحب وهماً :
} وهم الغرام من كتر ما هو لذيذ
رشقت أنا ف صدري جميع السهام {
وحتي لو لم يكن هو المحبوب :
} أهوي الهوي وهمس الهوي في العيون
وبسمة المغرم .. ودمعه الحنون
وزلزلات الحب نهد الصبا
أكون أنا المحبوب أو لا أكون {
وسر الحب لا يكمن فقط في المتعة التي يثيرها لدي الشاعر ، ولكن في كونه مصدراً لخلاصة الفردي من حالتي الاغتراب والحزن اللتين تسيطران عليه :
} زحام وأبواق سيارات مزعجة
اللي يطول له رصيف .. يبقي نجا
لو كنت جنبي يا حبيبتي أنا
مش كنت أشوف أن الحياة مبهجة ؟ {
فجراح القلب الحزين لن تشفي إلا بدواء الحب :
} كيف شفت قلبي والنبي يا طبيب
همد ومات والا سامع له دبيب
قاللي لقيته مختنق بالدموع
وما لوش دوا غير لمسه من إيد حبيب {
والشاعر لا يحتاج إلي جرعات كبيرة من هذا الدواء ، فقطرة منه تكفي
} ده الحب .. مين داق منه قطره .. ارتوي {
وللحب سر آخر أكثر شمولاً ، فهو إلي جانب أنه مصدر للخلاص الفردي ، فهو أيضاً مصدر للخلاص الجماعي من الشرور التي تحيط بالإنسان :
} بحر الحياة مليان بغرقي الحياة
صرخت .. خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاه .. صرخت .. قالوا مفيش
غير بس هو الحب قارب نجاه {
والسؤال الآن هل ارتوي ظمأ الشاعر من هذا الحب. هل أشبعت حاجته إليه ، الإجابة القاسية عن هذا السؤال هي النفي ، فقلب الشاعر – رغم كل هذا الشوق للحب – لازال جامداً لا ينبض :
} وأنا ليه بيمضي ربيع ويجي ربيع
ولسه برضك قلبي حتة خشب {
ولازال خاوياً ينتظر أن يملأ بمشاعر الحب الدافئة ، وهو ما يثير حسرة الشاعر:
} يا ميت ندامه ع القلوب الخلا
لا محبة فيها ولا كراهه ولا
حتي يا قلبي الحزن ما عدش فيك
معلهش لك يوم راح تتملا {
ما الذي إذن يحول دون الوصول إلي حالة الإشباع لهذه الحاجة الملحة. تتعدد هنا الإجابات وتتشعب بالشاعر المسالك والدروب. وأول ما يبرز أمامه من أسباب هو افتقاد علاقته بالمحبوب للأمان ، وتقطع أوصالها بسبب الفراق :
} ليه يا حبيبتي ما بينا دايماً سفر
ده البعد ذنب كبير لا يغتفر
ليه يا حبيبتي ما بينا دايماً بحور
أعدي بحر الأقي غيره اتحفر {
ذلك الفراق الذي لا يكون راجعاً – في الغالب – إلي وجود اختلافات بين المحبين :
} لولا اختلاف الرأي يا محترم
لولا الزلطتين ما الوقود انضرم
ولولا فرعين ليف سوا مخاليف
كان بينا حبل الود كيف اتبرم ؟ {
ولكن سبب الفراق الأساسي هو مراقبة الآخرين للعلاقة بين المحبين ، فالآخر هنا هو الجحيم الذي يبتلع غرام المغرمين.
} ورا كل شباك ألف عين مفتوحين
وأنا وانتي ماشيين يا غرامي الحزين
لو التصقنا نموت بضربة حجر
ولو افترقنا نموت متحسرين {
وهو أيضاً القائم بدور الرقيب علي المشاعر ، فيضفي علي المشاعر الجميلة بين المحبين دلالات قد تشوه معناه ، فكثيراً ما يربط الآخر بين الحب والخطيئة مما قد يشكك الفرد في مشاعره ، أو يقتل ما لديه من شعور بالمتعة والبهجة :
} عاد الربيع كأنه طعم الحب
والحب نار جوه العروق بتصب
أتمتع ازاي بيه وأنا متقطع
من كتر خوفي لا في الخطيئة يطب ؟ {
وهو ما يؤدي بالشاعر – في النهاية – إلي أن يحمل داخل قلبه مشاعر حب منقوصة :
} حبيت .. لكن حب من غير حنان {
إذن افتقاد الأمان في الحب هو أهم الأسباب التي تقف وراء حاجة الشاعر للحب. ولكن هل هو السبب الوحيد ؟ يجيب الشاعر هنا بالنفي ، فهناك الطرف الآخر للمعادلة إنه الحزن ، الذي يملأ قلب الشاعر ، وقلوب الآخرين من حوله :
} أعرف عيون هي الجمال والحسن
وأعرف عيون تأخذ القلوب بالحضن
وعيون مخيفة وقاسية وعيون كتير
وبحس فيهم كلهم بالحزن {
وهو لا يستطيع أن يستمتع بالحب طالما أن الحزن يملأ عيون وقلوب الآخرين ، وهو ما سرت به نفسه له :
} أيش تطلبي يا نفس فوق كل ده
حظك بيضحك وأنتي متنكده
ردت قالتلي النفس : قول للبشر
ما يبوصوليش بعيون حزينة كده {
إذن ما الحل ؟ كيف يخرج الشاعر من حيرته ؟ ، وكيف يمهد لقلبه المسالك لإشباع حاجته للحب. تبرز هنا أمام الشاعر عدة طرق ، إذا ما سلك أياً منهما ، فسوف توصله إلي الأخري ، وسينتهي به المطاف إلي مبتغاه ، أول هذه الطرق هو ضرورة البوح بالسعادة ، فالحب لا ينمو إلا في ظل الأمان ، ولا تتحقق متعته إلا في ظل السعادة :
} كرباج سعادة وقلبي منه انجلد
رمح كإنه حصان ولف البلد
ورجع لي نص الليل وسألني ..
ليه خجلان تقول انك سعيد يا ولد ؟ {
الطريق الآخر هو أن يداوي قلبه بالتي كانت هي الداء ، فيقهر الحزن بالمتعة والسعادة :
} انشد يا قلبي غنوتك للجمال
وارقص ف صدري من اليمين للشمال
ما هوش بعيد تفضل لبكره سعيد
ده كل يوم في ألف ألف احتمال {
أما إذا خنقته عيون الآخرين ، فعليه أن يبتعد عن كل ما يمكن أن يفسد عليه صفاء لحظات الحب :
} آه لو أنا ومحبوبي جزنا الفضا
في سفينة وحدينا .. وأشيا رضا
ساعة صفا تعجبنا نرجع لها
والهم قبل ما ييجي .. يبقي مضي {
وعليه أن يعي – وهو سابح في فضاء الشوق الواسع – أن الحب هو البوتقة الوجدانية الكبيرة التي تجمع بداخلها جميع المشاعر الإنسانية من سعادة وفرح ، أو حزن واشتياق.
} أنا قلبي كوكب وانطلق في مدار
حواليكي يا محبوبتي يا نور ونار
يلف مهما يلف ما بيكتفيش
وتمللي نصه ليل ونصه نهار {
وأخيراً عليه أن يعتبر الوصول إلي النشوة غاية في ذاتها ، حتي لو كان مطلبه هو المستحيل :
} أنا اللي بالأمر المحال اغتوي
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته ما طلتوش وأيه أنا يهمني
وليه .. ما دام بالنشوة قلبي ارتوي {
وبوصوله لهذه النشوة المبهمة ، يتضح لنا بجلاء ما كان يقصده بعبارته الأولي:
} أكون أنا المحبوب أو لا أكون {
ولكن هذا لن ينجح في منعنا من أن نكمل له العبارة ، المختنقة بداخلنا ، مرددين صرخة هاملت الشهيرة :
} تلك هي المشكلة {