الدوافع النفسية في رباعيات چاهين (2) ( لو كنت عارف مين أنا كنت أقول )
بدأنا – في المقال السابق – الإبحار في مياه رباعيات چاهين العميقة – بحثاً عن الدوافع الحبيسة داخل قواقع الأشعار. وبدأنا بأكثر القواقع قلقاً ، وأكثرها عرضة للانفجار ، وهي قواقع الشهوات المكبوتة. فوجدنا الشاعر يطالب بتحرير شهواته من سجون الخطيئة ، وبأن تترك له الفرصة ليروضها دون فرض ذلك بالقهر والجبر. واليوم نسلط عدساتنا – تحت مياه الرباعيات – بحثاً عن نوع آخر من الدوافع الحبيسة ، وقد وقع اختيارنا – في هذه المرة – علي دوافع الأمان والانتماء.
تقع الحاجة للأمان – من وجهة نظر عالم النفس الشهير ( ابراهام ماسلو ) – في المرتبة الثانية – بعد الدوافع البيولوجية – علي مدرج الحاجات النفسية للإنسان. وهذه الحاجة يوليها الفرد أولوية كبيرة في الإشباع تفوق غيرها من الحاجات الأخري ( مثل الحاجة إلي الحب ، أو تقدير الذات ، أو تحقيق الذات ).
ويشعر الشخص الذي لم تشبع لديه هذه الحاجة بالرغبة في تقليل حالة الشك لديه ، وفي إنقاص مشاعر الريبة وعدم اليقين في حياته. فإذا ما أشبع هذه الحاجة فإنه يتمتع بالعيش في بيئة متحررة من الخطر ، ويزال عنه الخوف من المستقبل ، وتزداد قدرته علي التنبؤ بسلوكه وسلوك الآخرين.
والمتأمل في رباعيات چاهين يجد العديد من الشواهد علي سيطرة هذه الحاجة عليه ، وعلي رباعياته ، سيطرة كبيرة. فتكشف التساؤلات المتكررة التي يطرحها الشاعر علي نفسه ، وعلينا ، عن شدة الحاح هذه الحاجة عليه. فهو لا يجد لأسئلته إجابة ، وكلما أجاب عن سؤال توقعه اجابته في تساؤل جديد ، وشيئاً فشيئاً ، تزداد دائرة الحيرة انغلاقاً ، تاركة حاجة الشاعر إلي الأمان دون الوصول إلي حد الإشباع.
والسؤال الآن هل اكتشف الشاعر السبب وراء حالتي الحيرة والشك اللتين تسيطران عليه ؟ الإجابة عن هذا السؤال ظلت في نظر الشاعر أملاً بعيد المنال ، حيث تشعبت أمامه الطرق وهو في غمرة بحثه عنها ، فاعتقد مرة أن الإجابة تكمن في الجهل الذي يتملكه ( سواء أكان جهلاً بالذات ، أم بسلوك الآخرين ، أم بأسرار الكون من حوله ) ، وأعتقد مرة ثانية أنها تكمن في نقص الايمان والهاديات المرشدة ، وظن مرة ثالثة أنها تختبيء وراء الاستسلام والعجز عن الفعل نتيجة تغلغل الخوف بداخله. اذن أين الطريق ؟ هذا ما سنحاول أن نبحث عنه في رحلتنا في بحار الشاعر الحائر ، ولنبدأ معه الإبحار.
يبدأ الشاعر البحث بداخله عن مصدر حاجته للأمان ، فيدق علي أبواب النفس ، كاسراً حواجز صمته الطويل ، وباحثاً عن إجابات لأسئلته الحائرة :
} يا باب أيا مقفول إمتي الدخول
صبرت ياما واللي يصبر ينول {
وما أن يهم بالدخول في أعماق النفس المغلقة ، يكتشف أنه لا يملك مفتاح بابها :
} دقيت سنين الرد يرجع لي مين
لو كنت عارف مين أنا كنت أقول {
وعندما لا يجد ضالته في الداخل يبحث لاسئلته عن إجابة خارج الذات ، في الكون الواسع الرحب. ولكن بدلاً من أن تتبدد شكوكه ، تزداد حيرته :
} نظرت للملكوت كتير وانشغلت
وبكل كلمة ليه وعشان إيه سألت
اسأل سؤال الرد يرجع سؤال
واخرج وحيرتي أشد مما دخلت {
ويزداد ثقل شعوره بالحاجة للأمان عندما يكتشف أن البشر جميعاً – منذ قديم الأزل – يتملكهم ما يتملكه من حيرة وشعور بالضياع :
} نوح راح لحاله والطوفان استمر
مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر {
والجهل بأسرار الذات وأسرار الكون توقع الشاعر فريسة للقدر ، الذي يشككه في قدرته علي الفعل فيتساءل :
} ايه يعمل اللي بيحدفه موج لموج ؟ {
ثم يتهكم من سؤاله قائلاً :
} اللي يخاف م الوعد يبقي عبيط {
وقد نظن أن استسلامه لمصيره هو نتاج لقيود مفروضه عليه فرضاً ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فحتي عندما يتحرر من قيوده هناك شيء ما يمنعه من الاختيار :
} وأنا في الظلام من غير شعاع يهتكه
أقف مكاني بخوف ولا أتركه
ولما ييجي النور وأشوف الدروب
أحتار زيادة أيهم أسلكه{
إذن افتقاد الهاديات هو السبب في توهان مركب الشاعر عن بر الأمان. ولا سبيل أمامه سوي الاهتداء بشيء ما .. أيكون دليله ومرشده هو الإيمان ؟. فحتي يختار الإنسان طريقاً معيناً يجب أولاً أن يكون مؤمناً بشيء ما يتخذه محكماً للاختيار. وهذا أيضاً يفتقده الشاعر بشدة :
} أأمن بايه محتار بقالي زمان ؟ {
إذن لو وصل الشاعر للإجابة عن هذا السؤال لأمكنه تلمس طريق الخلاص من حيرته .. ولكن بماذا يؤمن ؟
يري الشاعر أن أول خطوات الإنسان في طريقة للإيمان يجب أن تبدأ بايمانه بذاته ، وبتوطيد قيم ثلاثة بداخله إلا وهي الجمال والمعرفة والرحمة :
} ياللي بتبحث عن إله تعبده
الله جميل وعليم ورحمن رحيم
احمل صفاته وأنت راح توجده {
فإذا ما حقق ذلك فإنه سيصل عندئذ إلي الإيمان الأكبر.
ولكن هل نجح الإنسان في تمثل هذه القيم ؟ الإجابة للأسف لا. فبدلاً من إعلاء قيمتي الرحمة والعدل ، غرق الإنسان في بحر الشر.
} آه من الطوفان آهين يا بر الأمان
إزاي تبان والدنيا غرقانه شر {
وفي غمره ذلك أهدر الإنسان إنسانيته :
} الناس ما هياش ناس بحق وحقيق {
وما ضخم حيرة الشاعر هو أن هذا الشر ليس أمراً متأصلاً في الإنسان ، ولكنه من فعل البشر أنفسهم :
} مع أن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين {
وتصل دهشة الشاعر إلي ذروتها عندما يجد الإنسان يستبيح عذاب اخيه الإنسان:
} ما أعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب
واعجب من اللي يطيق يعذب اخوه {
وبوصول الشاعر إلي هذه النتيجة ، أصبح لديه بعض الاستبصار بمصدر حيرته ، أنه الشر ، إذن لماذا لا ينتهز الفرصة ، ويبدأ في التحرك خطوة للأمام ليهجم علي أحد معاقل حيرته ، قبل أن تستفحل ، وتتشعب ، وتثير لديه أسئلة جديدة …. عليه اذن أن يواجه الشر.
ويبرز أمام الشاعر هنا خياران ، إما أن يصبح مثل الكثيرين ، جامداً ، قاسياً ، حتي يتوافق مع هذا الشر ، وإما أن يبدأ في المواجهة الإيجابية ، ويقاوم الشر بداخله وخارجه.
ويحاول الشاعر أن يجرب الخيار الأول إلا أنه يفشل فشلاً ذريعاً :
} قلبي رميته وجبت غيره حجر
داب الحجر ورجع قلبي رقيق {
اذن اللجوء إلي تغيير الداخل إلي الأسوأ من أجل التكيف مع عالم الشر ليس بالحل اللائق بفنان مثله ، كل ما يختزنه حب وتعاطف إنساني كبير ، وعلي هذا لن يجدي هذا الحل ، فهو سيجعله مهزوماً سواء انتصر أم هزم :
} أنا كلي دم قتلت ولا اتقتلت {
لم يبق اذن إلا أن يجرب الخيار الثاني. فليبدأ بازالة أي نبته كره شيطانية تنبت داخل قلبه :
} يا مشرط الجراح أمانه عليك
وأنت في حشايا تبص من حواليك
فيه نقطة سوده ف قلبي بدأت تبان
شيلها كمان والفضل يرجع إليك {
…… وليتقدم أكثر ، ويغير القلب المستكين إلي قلب قوي قادر علي تحمل رحلة المقاومة :
} أنا قلبي كان شخشيخه أصبح جرس {
ياله من نصر ، ها هو يجد أن التغيير الذي أحدثه بنفسه ، وبقلبه اتي بثماره بسرعة مذهلة ، وكان له تأثير كبير علي كل من حوله :
} جلجلت به صحيوا الخدم والحرس {
وما إن أتت لحظة المواجهة إلا ووجد نفسه عاجزاً عن الفعل ، فصاح مندهشاً :
} أنا المهرج قمتوا ليه خفتوا ليه
لا ف إيدي سيف ولا تحت مني فرس {
هنا اكتشف الشاعر أنه لا يملك أدوات المواجهة ، فهو لا يملك السيف المذل ، ولا الفرس المغامر ، أنه لا يملك سوي قلب حنون وهذه هي مشكلته ، ومصدر حسرته:
} يا ميت ندامه ع اللي قلبه حنون {
اذن يجب الاستعداد للمواجهة بطريقة مختلفة. يجب البدء بمواجهة الذات ، ومعرفة أسباب عجزها عن الفعل … أيكون السبب هو الخوف الرابض بداخلنا منذ الأزل ؟
} كان فيه زمان سحليه طول فرسخين
كهفين عيونها وخشمها بربخين
ماتت .. لكين الرعب لم عمره مات
مع أن فات بدل التاريخ تاريخين {
أيكون السبب هو الخوف المحيط بنا في الخارج ولا نملك له صدأ ؟
} سهير ليالي وياما لفيت وطوفت
وف ليلة راجع ف الظلام قمت شفت
الخوف كأنه كلب سد الطريق
وكنت عاوز اقتله بس خفت {
ويرجح الشاعر أن السبب وراء العجز عن الفعل هو الخوف من الذات
} خايف ولكن خوفي مني أنا {
لأن الخوف مما هو خارج الذات ليس له مبررات موضوعية تؤيده
} ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح
ما تخفشي من جني ولا من شبح
وأن هب فيك عفريت قتيل اسأله
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح {
كيف ننتصر إذن علي الخوف داخلي المنشأ ؟ هنا يلمح الشاعر نقطة مضيئة في نهاية رحلته مع الحيرة وهي ضرورة مكاشفة الذات ، ومكاشفة الآخرين ، والتحرر من قضبان الصمت التي يسجن الشاعر نفسه داخلها.
} رحت لحكيم وأكثر لقيت بلوتي
إن اللي جوه القلب مش ع اللسان {
إنه شخص الداء وعرف اضراره :
} ده اللي ما يتكلمش يا كتر همه {
بقي العلاج وهوالمكاشفة التي يمكن أن تتيح له معرفة :
} الكذب فين ؟ والصدق فين يا تري ؟ {
وهذه المكاشفة تتطلب أن يجيب عن عديد من الأسئلة التي قد يوجهها لنفسه :
} أزاي أنا ياتخين بقيت بهلوان ؟ {
أو لأي شيء يمكن أن يصدقه القول :
} يا مرايتي ياللي بترسمي ضحكتي
يا هلتري ده وش ولا قناع {
وما إن يجيب الشاعر عن هذه الأسئلة فإنه يستطيع أن يطرق باب النفس مرة أخري ، فإن سئل عن هويته في هذه المرة ، فلن يكرر الإجابة السابقة :
} لو كنت عارف مين أنا كنت أقول {
بل سيجيب :
} أنا الذي عمري اشتياق ف اشتياق {
وهي إجابة سنفرد لتفاصيلها المقال القادم.