الدوافع النفسية في ” أمشير ” الأبنودي ( يشيل التراب من بلد لبلد )

إذا كانت الحاجة إلي الأمان ، قد كشفت عن نفسها بوضوح في قصيدتي ” الشتاء ” للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي ، فإن الحاجة إلي التغيير ، هي أكثر الحاجات تجليا في قصيدتي أمشير. فقد ألقي الشاعر بمشاعره في رياح ( أمشير ) ، وتركها تعبث بكل شئ أمامها ، فتحرك الساكن ، وتكشف المستور ، وتسب ” المستكين ” ، وتستثير المشاعر الخامدة لدي الغافل والنائم والمستسلم .

وأمشير في القصيدة الأولي ، غجري دائم الترحال ، لا يعرف معني الاستقرار:

} مهاجر مهاجر .. تملي مهاجر {

غاضب دائماً ، ونافر دائماً :

} غضوب النفس والعيون والحناجر{

ومتي حل بمكان ، لا يترك اي شبر فيه دون أن يترك عليه بصماته ، ويفرض عليه إرادته :

} يقول كلمته ف كل شبر {

فيفاجئ الجميع بحركاته المباغتة ، ويطرق أبوابهم دون استئذان ، فاضحاً أسرارهم ، وكاشفاً عوراتهم ، ومقتحما مضاجعهم :

} لا يقول يا ساتر ، ولا يخلي ساتر

يعري البنات في الميدان في النهار

يطل ف طاقات الجميع {

وهو لا يخشي في هياجه أي شئ ، فيصب غضبه علي الجميع ، ويلعن الجميع:

} يسب الجميع كله مؤمن وكافر {

ولا يكترث بأي شئ فيخضع الجميع لإرادته :

} يحوم تذاكر المسافر {

و} يقلع خيام العساكر {

وهو في ثورته يتعامل بمنطق البدائي الجاهل :

} لا هو متكتكاتي وماكر ، ولا هو بيقرا وشاطر{

فتجده غير معروف الأصل ، وفاقد الاتجاه :

} لفين ولا مين فين مهاجر ، كأنه اتولد جوه قلب التراب {

وعلي الرغم من الوجه الشرس الذي يطالعنا به أمشير { من غضب وبطش ، وفرض للإرادة ، وفضح للأسرار ، وتلصص علي الخفايا } فإن أهم ما يميزه أنه يحرك الساكن ، ويغير الأحوال ، ويدفع بالساكنين للتأمل ، وهو سر ترحيب الشاعر بقدومه :

{ أهلا باأمشير العزيز ..

يابو التراب في أنفنا زي العبير

في ودننا زي النغم

علي قلبنا زي العسل

طير ف الخلا ، وف المدن ، صوتك لذيذ }

وهو لا يكتفي بالترحيب ، بل يدعوه إلي أن يزيد من بطشه لعل الحركة تدب في الغافلين :

{ ميل غيطان القمح والقوطة ودور

وأنحل جلود الأرنب الوالد ، وشيل شعر المعيز }

أنه يري في بطشه وسيلة سريعة لإحداث التغيير المنشود ، ودفع الجميع إلي التفكير .. فيما يضيعون أعمارهم ؟ :

{ بعزق برجليك الليالي والشهور

خلينا نحسب عمرنا من تاني مثل

الناس في أمريكا وباريز }

وإذا كان تحريك الساكن هو أول الخيط في رحلة التغيير ، فإن إعادة تأمل الواقع والتساؤل عن دلالة الأفعال ، هو طرفها الثاني ، ففي غبار أمشير يجب أن ننجح في التميز بين المتشابهات ، وفي معرفة حقيقة الواقع المحيط بنا :

{ ده حلم ولا كفن }

وحقيقة مشاعرنا :

{ دي دهشة ولا انتظار }

وحقيقة أفعالنا :

{ يا هل تري ، وأنا في الجفاف مايل

حارس بيبان العار ولا الديار }

ومن بين جميع الأسئلة التي يجب أن نبحث عن إجابة عنها ، هناك سؤال أهم ” ما الذي يمنعنا عن إحداث التغيير بداخلنا ؟ ” ويجيب الشاعر نفسه ، إنه الاستسلام بكل صوره …. إنه الاستسلام لجفاف المشاعر :

{ حبيبتي افتكرت النسايم

ليالي الربيع الشهيدة ..

إيديا ف إيديكي كمفتاح خشب

في قفل خشب ع البيبان الخشب

ما اعرفش فين كنا .. رجلينا

مشيوا وحفيوا بادور عليهم هنا في التراب

في العما ، وأمشير ما بين التراب والسما }

وهناك الاستسلام لضياع الحقيقة :

{ ومتنتورين في الزمن محلولين

ضفاير صبية غريقة

دموع المسيح تحت تقل الخشب والحقيقة

محاوطة عذاب العيون

وشماتة العيون }

وهناك أخيراً الاستسلام للقوة والبطش ، والانحناء للرياح دون مقاومة :

{ ضحكنا وما أعرفش يمكن بكينا

لكين كنا غيرنا

وغير دي عينينا

ما كنّاش بننشف كدا في العرّا،

والسموم والأذية

ما كناش طروف يابسة يم السما

بترفعهم الشجرة المتصابية

بعاد مطوحين عريانين ، لواهم وهو مهاجر }

إنه أمشير الثائر القادر وحده علي :

{ سب الجميع}

و { شيل التراب من بلد لبلد }