الإبداع لا يفني ولا يُستَمد من عدم
إذا كان قانون بقاء الطاقة وضع ليفسر تحولات الطاقة الفيزيقية من صورة إلي أخرى ، ولتأكيد أنها لا تفني ولا تستمد من عدم ، ويصلح استخدام هذا القانون نفسه – ولو علي سبيل الفرض – لوصف الحالة الإبداعية وما يطرأ عليها من تغيرات داخل الأفراد .
ينص الشطر الأول من القانون علي أن الطاقة لا تفني بل تتحول من صورة إلي أخرى ، فالطاقة الكهربائية تتحول إلي طاقة حركية في حالة المروحة ، وإلي طاقة حرارية في حالة المكواة ، وإلي طاقة ضوئية في حالة المصباح الكهربائي . وهذا التحول يمكن أن نفترض حدوثه أيضاً في حالة الطاقة الإبداعية ، فحين تواجه المبدع عوائق تمنع بزوغ إبداعه في مجال من المجالات فإن طاقته الإبداعية لا تتبدد بل إنها تتحول إلي صورة أخرى ، قد تكون هذه الصورة إيجابية أو سلبية ، وقد تختلف عن الصورة الأولي كيفياً أو تتشابه معها ، المهم أن الطاقة تظل نشطة إلي أن تتاح لها الفرصة للتعبير عن نفسها .
وتساعدنا نظرية الدكتور مصطفي سويف – عالم النفس المصري – عن منشأ العبقرية في توقع شكل التحولات التي يمكن أن تطرأ علي الطاقة الإبداعية. فقد أشار إلي أن الحاجة الأساسية المحركة للإبداع عموماً هي الحاجة إلي استعادة التكامل الاجتماعي بين المبدع ومجتمعه ( فيما يعرف اصطلاحاً بالحاجة إلي النحن ) ، فتبدأ شرارة الإبداع بشعور الفرد أنه مختلف عن الآخرين سواء في قيمه الاجتماعية أم في عقائده العملية ، وهذا الاختلاف يؤدي به في النهاية إلي حالة من عدم التوافق مع الآخرين فيما يخص أي أهداف تتصل بتحقيق هذه القيم ، مما يخلق صدعاً في علاقته بالآخر ، وشعوراً بأن هناك حواجز تفصل بينه وبين الآخرين ، ومن ثم يبذل محاولات لتغيير هذه الحواجز لاستعادة تكامله مع أفراد مجتمعه ، ويكون إنتاجه الإبداعي بمثابة محاولة في هذا الاتجاه. فالروائي علي سبيل المثال قد يري أن اللص مجني عليه من المجتمع أكثر من كونه جانياً أثيماً علي خلاف ما يعتقده الكثيرون من حوله وبالتالي فهو يقدم روايته ليقنع من خلالها أفراد مجتمعه بهذه الوجهة من النظر ، فإن تقبلها جمهور القراء فيعد هذا مؤشراً علي تغير الحواجز التي قامت بينه وبين الآخرين ، وأنه نجح في جذب الآخر إلي عالمه ، وأقام ( نحن ) جديدة هو الذي نظمها إلي حد كبير.
وما يهمنا هنا هو التشابه الذي أقامت الباحث بين حاجة المبدع إلي استعادة النحن وحاجة المراهق والمريض العقلي ( الفصامي ) إلي ذلك ، فكلا الآخرين يحدث لهما أيضاً تصدع في علاقتهما بالآخرين ، وبينما تتجه حركة المبدع إلي تغيير الحواجز مع الاعتراف ببعضها ، فإن حركة المراهق تتجه نحو تدمير الحواجز التي تفصل بينه وبين الآخرين وهو ما يظهر في ثورته علي كل رموز السلطة كالأب والمعلم والتقاليد بوصفها حواجز وقيوداً ، أما الفصامي فيتغلب علي هذه الحواجز عن طريق التغيير الخيالي لها. ومن ثم تتميز محاولة المبدع بأنها أكثر إيجابية وواقعية مقارنة بمحاولتي المراهق والمريض ، وهو ما يجعلنا نتوقع أن فشل المبدع في تغيير الحواجز علي النحو السابق من شأنه أن يدفعه إلي اتخاذ موقفاً مشابهاً لموقف المراهق أو الفصامي ، فإما أن يلجأ إلي التدمير ، أو إلي الاستغراق في الوهم وأحلام اليقظة ، أو إلي الوقوع – إذا توفرت مجموعة أخري من الشروط – في الاضطراب النفسي ومن ثم تتحول طاقة الفرد الإبداعية من صورة الإنتاج الإيجابي إلي صورة الإنتاج السلبي ، ومن التغيير الواقعي إلي التغيير الخيالي أو الوهمي.
وإن كان ما عرضنا له إلي الآن هو نوع من التحول الكيفي في اتجاه الطاقة ، فإننا من الممكن أن نشهد أنواعاً أخري من تحول الطاقة وتوزيعها.
فقد يخفق الفرد في الإبداع في العلم – لفشله في التحديد المبكر لميوله – فيتحول إلي الفن الذي يكون أيسر عليه في التعبير عن رؤاه ، والعكس صحيح. أيضاً قد لا تجد الطاقة الإبداعية لدي الفرد منفذاً في مجال الشعر فتتجه نحو القصة أو المسرح أو الموسيقي. كل هذه تحولات تؤكد أن الطاقة الإبداعية لا تفني بل تتحول إلي صور أخري مختلفة.
وإذا انتقلنا الآن إلي الشطر الثاني لقانون بقاء الطاقة الذي ينص علي أن الطاقة لا تستمد من عدم ، فسوف نجد أنه قابل أيضاً للانطباق علي الظاهرة الإبداعية. فالمبدع لا يستمد إبداعه من لاشيء ، بل إن مفردات الحياة اليومية ، وما يختزن منها في الذاكرة هي المعين الأول الذي يستمد منه إبداعاته. فهو لديه القدرة علي إدراك الأشياء المألوفة التي تحيط به ، والوقائع التي تزخر بها اليومية علي أنها أمور مثيرة للتأمل وجديرة بالأهتمام.
وعلي هذا تعد الوقائع المألوفة بمثابة اللبنات الأساسية ( أو المادة الخام ) للتفكير الإبداعي ، فهي تمد الفرد بالأفكار الأولي التي ما تلبث أن تتحول ، بفعل التخيل والتركيب الخلاق بين عناصرها ، إلي حلول جديدة وغير معتادة. فغروب الشمس ، وأعقاب السجائر في المطفأة ، والطوب الأحمر الملقي في الطريق ، كلها عناصر مألوفة. إلا أن المبدع يوليها اهتماماً خاصاً ، ويستجيب لها علي نحو فريد ، وغير مألوف. فعين المصور المدربة تجد في غروب الشمس ” المعتاد ” مشهداً مثيراًَ للتأمل ، وتعبيراً فنياً يعكس نزعة الطبيعة للجريمة. كذلك يتأمل الأديب مطفأة السجائر فيري فيها ” مقبرة للأفكار “. ويجد المخترع في قالب الطوب الأحمر تصوراً جديداً لسخان كهربائي ، منخفض التكلفة – إذا ما حفر سطحه – ومد بداخله الأسلاك.
ويتضح لنا من هذه الأمثلة وغيرها ، أن ” تأمل المألوف ” يؤدي إلي إدراك الجمال فيما مبتذل ، والجديد فيما هو معتاد ، والقيمة فيما هو عديم النفع وهو ما يؤكده الفنانون أنفسهم فيقول ( فان جوخ ) مثلاً ” في أفقر الأكواخ ” وأشد الأماكن قذارة أري اللوحات والصور ، وبقوة لا يمكن مقاومتها أنجذب نحو هذه الأشياء “.
من ناحية أخري تمثل عناصر الطبيعة الحية ، أكثر مفردات ” العالم المألوف ” إثارة للتفكير الخيالي ، والمصدر الخصب الذي يمدنا بكثير من الحلول الأصلية لما نواجهه من مشكلات ( سواء أكانت هذه المشكلات ذات طبيعة جمالية ، أم ذات طبيعة عملية نفعية ). فالفنان يمكن أن يجد صوراً مختلفة للجمال بين عناصر الطبيعة ، والتكنولوجي إذا تأمل كيف عولجت المشكلة محل اهتمامه في الطبيعة فيمكن أن يستلهم منها عديداً من الحلول المبتكرة. فالكاميرا ، والتليفون ، والكمبيوتر ، والحفار هي أمثلة لمحاكاة المخترع لعين الإنسان ، وأذنه ، ومخه ، وذراعه ، مثلما أن الطائرة ، والرادار هي أمثلة لمحاكاة التكنولوجي لأجهزة الحركة لدي الطيور.
وتعد حالة ” تأمل المألوف ” حالة حالة حاضرة طوال العملية الإبداعية ، وإذا كان المبدع في غمرة وصوله إلي الحل الخلاق ، أو الفكرة الجديدة لا يلقي اهتماماً بنقطة البداية التي انطلق منها ، فإن مراجعة مراحل بزوغ وتطور الأفكار الإبداعية يكشف لنا حقيقة مؤداها : أن تشكيل هذه الأفكار في بدايتها الأولي استمد من عناصر ووقائع مألوفة ومعتادة ، وما يحدث من تحولات وتغيرات في هذه العناصر لا ينفي أنها اللبنات الأساسية لما صار عليه الإنتاج الإبداعي النهائي. وما يقال عن أن الإبداع ” خلق علي غير مثال ” ، ” وأن الخيال مصدر إبداعنا الأوحد ” هي أقوال تركز علي المراحل النهائية للعملية الإبداعية ، متجاهلة المثيرات ( الوقائع المعتادة ) التي أفضت إلي الناتج الإبداعي الفريد.
وفي النهاية إذا كنا علي وعي بالأهمية العملية لقانون بقاء الطاقة الفيزيقية ، فيجب علينا أن نتلمس كذلك الدلالات التطبيقية لقانون بقاء الطاقة الإبداعية ، فعلي المربين – علي مختلف أنواعهم – أن يهيئوا المناخ الملائم لتحرير خيال أبنائهم ، وفتح المنافذ المناسبة له ، حتي لا تتحول طاقة البناء إلي طاقة تدمير ، وعليهم أن يمهدوا للفكر الحالم ؟ أرضاً يهبط عليها ، وأن يدربوا أبنائهم علي معايشة الطبيعة والواقع المألوف لا لقبوله كما هو بل لاستكشاف ما يكمن داخله من أسرار. أما الدولة فهي تطالب مواطنيها دائماً بضرورة ترشيد الطاقة ، وتنقب لهم في باطن الأرض وفي أعماق البحار عن مصادر جديدة لها ، ومع كثرة هذا البحث لا نجدها تعني العناية الكافية بترشيد طاقة ابنائها النفسية بالرغم من أنها أكثر أنواع الطاقة تجدداً وأكثرها خطراً وضرراً إذا ما تلوثت.