التعاطي بين الحقيقة والوهم
التعاطي بين الحقيقة والوهم
سكْب الخمر فوق جمرة الإبداع المشتعلة يزيدها توهجاً أم يُطفؤها بالتدريج ؟ سؤال حائر بين نزوات المبدعين وحقائق العلماء . والضحية دائماً الشباب الواعد الذي يخطو خطواته الأولي علي طريق الإبداع الشاق .
فيعتقد بعض المبدعين أن شرب الكحوليات – أو غيرها من المخدرات – يساعد في تغيير حالة الوعي لديهم ، ويهيئ لهم مناخاً نفسياً يتيح لخيالهم المقيد أن ينطلق ، ويخرج من قمقم المنطق الخانق . وعلي الطرف الآخر تكشف تجارب وبحوث العلماء أن تعاطي الكحوليات – أو غيرها من المخدرات – يؤدي إلي إحداث عديد من الاضطرابات النفسية لدي متعاطيها ولا يقتصر تأثيرها في الخصال الشخصية والوجدانية للأفراد بل يمتد هذا التأثير إلي القدرات العقلية ، والوظائف المعرفية النوعية ( كاضطراب الإدراك ونقص الانتباه وضعف الذاكرة واختلال القدرة علي التعلم والاستدلال والتجريد ) . فضلا عن التدهور العقلي العام الذي يحدث بالتدريج ويعوق في بعض مراحله قدرة الشخص علي أداء مهامه الاجتماعية والمهنية بالكفاءة المطلوبة.
والصورة التي يقدمها العلماء لمتعاطي الكحوليات ومدمنيها قد لا تتفق مع الملاحظات السطحية التي يجمعها شباب المبدعين عن قدوتهم من المبدعين الكبار . فإذا ما واجهت هذه الفئة من الشباب بنتائج البحوث العلمية في هذا الصدد فإنها تسارع بضرب عديد من الأمثلة لمبدعين اشتهر عنهم تعاطيهم للكحوليات وغيرها من المخدرات رغم ذلك كانوا علي درجة مرتفعة من الإبداع . والواقع أن هذه الأمثلة وغيرها تبني علي كثير من المغالطات المنطقية وتناقض الحقائق العلمية ، فهؤلاء الشباب عندما يرصدون عدد المبدعين الذين أبدعوا رغم تعاطيهم للمسكرات أو المخدرات يتغاضون دائما عن عدد من تعاطوا وأدي تعاطيهم إلي إخفاقهم في الاستمرار في الإنتاج الإبداعي . كما أنهم يجهلون حجم الاضطرابات التي يعاني منها هؤلاء المبدعون المتعاطون في حياتهم اليومية .
وتظهر المغالطة المنطقية بوضوح عند القول بأن الشخص يبدع نتيجة للتعاطي بدلاً من القول بأنه يبدع علي الرغم من تعاطيه . فالإبداع نشاط سوي يحتاج إلي تضافرْ وتوظيف القدرات العقلية علي أعلي مستوي لها ، في حين أن التعاطي هو إضعاف لهذه القدرات وإخلال بعملها ووظائفها ، فكيف يتم نسب هذا إلي ذاك . فالتعاطي إذا كان يُمهد أحد الممرات للإبداع فإنه يغلق في وجهه عديداً من الممرات الأخرى .
وعلي هذا فإن الصياغة الثانية المطروحة هنا تساعدنا علي الوقوف علي بداية الطريق الصحيح للنظر في العلاقة بين الإبداع والتعاطي . فهي تساعدنا ، من ناحية ، علي تحديد حجم الوظيفة التي يؤديها التعاطي للمبدع ، وتساعدنا ، من ناحية أخرى ، علي البحث عن السبل الأخرى البديلة التي يمكن أن تحقق للمبدع ما يسعي إلي تحقيقه عن طريق التعاطي . بمعني آخر تساعدنا علي الإجابة عن السؤال المُلِح : ألا يوجد سبيل آخر لتغيير حالة الوعي ، وإطلاق العنان للخيال إلاّ عن طريق التعاطي ؟ . وتجيب البحوث +الدراسات النفسية عن هذا السؤال بالإيجاب . حيث قدم علماء النفس المعنيون بتنمية الإبداع العديد من الأساليب والتكنيكات التي تهدف إلي التغلب علي مختلف معوقات الإبداع ( المعرفية والوجدانية والاجتماعية ) والتي تهتم بتحرير خيال الأفراد من القيود المفروضة عليه ، فضلاً عن إكساب الأفراد القدرة علي التحكم في عملياتهم النفسية والفسيولوجية . المشعور بها وغير المشعور بها – بما يضمن لهم قدراً أعلي من التحكم الواعي في وظائفهم النفسية ، فمتي تحكم الفرد في هذه الوظائف أصبح بمقدوره تهيئة المناخ النفسي الملائم للإبداع دون أي تدخل للعقاقير أو المخدرات أو المسكرات . وتعد تدريبات الاسترخاء ، وأساليب التحكم الواعي في الحالات الفسيولوجية الداخلية ، وبرامج إطلاق حرية التعبير الانفعالي والفكري أمثلة واضحة في هذا الصدد .
وفي النهاية ، ما يجب أن يسطع أمامنا بوضوح ، هو أن استبدال التعاطي بغيره من الإجراءات السلوكية ليس بالأمر الهين ، فالتعاطي منظومة أكثر تعقيداً مما عرضنا له هنا ، حيث تسهم عديد من التغيرات في تشكيل هذه الظاهرة الخطيرة ، من بينها اعتقادات الفرد ، واتجاهاته ، وقيمه ، واستعدادته البيولوجية ، والنفسية ، والمناخ الاجتماعي والثقافي والحضاري المحيط به ، ولكن كل ما أردنا تأكيده هنا هو أن هناك بدائل عديدة صحية من الناحية النفسية والجسمية والاجتماعية تصلح أن تكون بديلاً للتعاطي . وإن ما هو شائع – خطأً – عن العلاقة الإيجابية بين الإبداع والتعاطي هو نتاج لفهم مغلوط لهذه العلاقة يسهم في نسج خيوطها المبدعون أنفسهم ومحاولاتهم إضفاء هالة خاصة علي كل ما يفعلونه ، من ناحية ، إلي جانب ما تقيمه وسائل الإعلام من روابط بين الإبداع والتعاطي من ناحية أخرى ، والأهم – من هذا وذاك – غياب الوعي العلمي لدي الكثيرين ، ذلك الغياب الذي دفع بالبعض إلي أن يعتقد أن المبدع يبدع لأنه يتعاطي بدلاً من التساؤل كيف للمبدع أن يبدع وهو يتعاطي ؟ .