إرادة المبدع وإرادة الأفكار

صاح ( بلزاك ) – الروائي الفرنسي الشهير – عندما واجه نقداً شديداً بسبب تعدد الأحداث التراجيدية التي وقع فيها أحد أبطال رواياته قائلاً : ” لم تثيرون حولي كل هذه الضجة ، إن أبطال رواياتي لهم إرادتهم الخاصة ، وما يحدث لهم هو أمر محتوم ، ليس لي عليه سلطان ، واشتكي بالمثل الروائي الإنجليزي ( وليم ثاكاري ) من شعور مشابه فقال : ” أنا لا استطيع التحكم في الحروف والكلمات ، أنا بين أيديها تأخذني حيثما تريد “.

والمعني المشترك الذي قصده كلا الكاتبين هو أن علاقتهما بإنتاجهما الإبداعي لا تحكمها دائماً إرادتهما الشخصية – كما يتصور البعض – بل إن هناك من القيود ما يحول دون حريتهما المطلقة في ذلك ، تلك القيود التي يكون مصدرها غالباً قوانين نسج العمل الإبداعي ذاته .

فالأديب مقيد بسلاسل اللغة وقضبان البناء الفني ، والرسام آسير اللون والتكوين والشكل ، والمخترع سجين قوانين العلم وقواعد المنطق . والكل خاضع لعديد من القيود الموضوعية ، خارج الذات المبدعة . ولا يوجد مبتكر يستطيع أن يتحرر تماماً من هذه القيود ، وإن أراد أن يثور عليها فإنه يستبدل بنمط منها يرفضه ، آخر أكثر قبولاً بالنسبة له .

ومن ثم حين تخرج الأفكار من أعشاشها – في عقل المبدع – لتهبط علي أوراق كراسته في صورة رواية أدبية ، أو قصيدة شعرية ، أو نوتة موسيقية أو لوحة تصويرية ، أو اختراع تقني ، أو بحث علمي ، تصبح لها حياة أخرى غير التي كانت تحياها في رأس من أبدعها ، حياة مستقلة متغيرة ، لها قوانينها الخاصة التي تحكمها .

ورغم القيود التي تفرضها المتطلبات البنائية للمنتج الإبداعي علي حرية المبدع قبل أن يشرع أصلاً في عمله ، فإنها في مراحل معينة من مسار عملية الخلق الإبداعي تصير مصدراً خصباً لحفز الخيال وإطلاق عنانه . وهو ما أكدته عديد من الدراسات النفسية المعنية بالإبداع.

فأشار ( جوردن ) – عالم النفس الأمريكي – إلي أن المبدع أثناء مسار عملية إبداعه ، يعايش حالة من ” الأستقلال الذاتي لأفكاره “. وهي حالة وجدانية متذبذبة ، أثناءها يتأرجح بين شعورين علي قدر كبير من التعارض ، الشعور الأول يتملكه في البداية أثناء تأمله للأفكار الغائمة التي ينتجها لحل المأزق الذي يواجهه ، فيشعر أثناء ذلك بارتباط الفكرة أو الحل الذي ينتجه به فهو من خلقه وهو طوع خياله. لكن متي أصبحت الأفكار الهشة ، غير المترابطة ، أكثر تماسكاً وصلابة ، يبدأ في معايشة شعور آخر مناقض لما سبقه ، فيشعر بالاستقلال الذاتي للفكرة التي خرجت عنه ، ومن ثم يتعامل معها ككيان موضوعي منفصلاً عن ذاته ، ويدركها علي أنها تحيا وتنمو بدونه.

ويوصف – عندئذ – موقف المبدع من إنتاجه الإبداعي بأنه تأرجح بين الإيجابية والسلبية ، وصراع بين ارادته وارادة ما يبدعه من أفكار. فالفنان التشكيلي علي سبيل المثال إذا أمسك بريشته ليعبر عن أحد المواقف التي شاهدها – مثل جلوس طفل صغير علي شاطيء البحر ليصطاد – فإنه يكون في البداية خالي الذهن ، فيما عدا بعض الأفكار الغامضة ، والصور العقلية الباهتة. ومن خلال التأمل واللعب بالأخيلة ، ينشط ويرسم عدداً من الخطوط ، محاولاً اللحاق بهذه الأفكار وتثبيتها علي اللوحة ، أثناء ذلك تكثر التغييرات والتبديلات والاختيارات بين الأفكار. حتي يستقر له الأمر تدريجياً وتبرز أمامه إحدي التصورات علي أنها الأكثر قبولاً وإرضاءً لوجدانه.

حتي هذه اللحظة تكون علاقة المبدع بلوحته علاقة إيجابية نشطة . فهو- بإعماله لخياله يكون العنصر الأكثر نشاطاً وإيجابية في خلق الأفكار والتحكم في مسار تطورها في حين أن اللوحة متلق سلبي لهذه الأفكار . ولكن عند نقطة معينة يتغير شعور المبدع بالموقف . فيتلاشي بالتدريج الغموض مصحوباً بنقص في الأفكار التي ترواده ، ويشعر أن اللوحة كيان مستقل عنه ، عندئذ ما لم يسمح لهذا الشعور بأن ينمو فقد يتوقف عن استكمال لوحته . أما إذا عايش الشعور بالاستقلال الذاتي لأفكاره التي أنتجها فإن هذا كفيل يشحذ خياله مرة أخرى وتصبح اللوحة ، في ذاتها مصدراً جديداً لإمداده بالأفكار .

وقد يفرض عليه هذا الشعور الجديد استكمال اللوحة بطريقة مختلفة عما كان يفكر فيه قبل أن يبدأ في رسمها ، وقبل مثولها أمامه في صورة خطوط ملموسة . وخلال ذلك نجد أن اللوحة قد أصبحت هي العنصر النشط بينما الفنان صار متلقياً سلبياً لما تمده به من أفكار ، وحينئذ يتأرجح المبدع بين هذين الشعورين إلي أن تصل اللوحة إلي حالة الاكتمال .

وما يحدث للرسام والأديب يحدث للمخترع والباحث العلمي ، فلا تقتصر حالة الاستقلال الذاتي للأفكار علي مجال من مجالات الإبداع دون الآخر ، فهي تمثل أحد الأسس النفسية للعملية الإبداعية سواء في الفن أو العلم أو الاختراع التقني .

ويكشف لنا ما سبق أن الأفكار أرواح شاردة . إذا ما تجسدت في صورة قصيدة ، أو لوحة ، أو اختراع تقني تصبح كائنات حية مليئة بالحياة ، وهو ما يضمن لها البقاء والخلود بعد موت أصحابها .