أساليب تنمية الإبداع (1) ( الشبه بين الفيل والنملة )
هل يمكن تعلم الإبداع ؟ هذا هو السؤال الذي أجبنا عنه بالإيجاب في المقال السابق. وبالتالي أصبح من الضروري الإجابة عن السؤال الآخر المترتب عليه منطقياً ، وهو كيف يمكن تنمية الإبداع وتعلمه ؟ وفي إجابتنا عن السؤال الأخير محاولة للرد المباشر علي الأسئلة الحائرة ، التي تشغل تفكير الآباء والمعلمين وغيرهم من المربين الآملين في الارتقاء بقدرات ابنائهم العقلية ، وتحقيق أحلامهم الشخصية.
وبداية نشير إلي أن تعلم مهارات التفكير الإبداعي ، تتطلب كباقي المهارات بذل الجهد المتواصل ، فضلاً عن تضافر عدة عوامل متشابكة بعضها يتصل بالشخص المتعلم ، وبعضها يتعلق بالبيئة الاجتماعية المحيطة به.
لذلك يوجد اتجاهان كبيران لتعليم الإبداع – لا يغني أحدهما عن الآخر – الأول يركز علي الفرد ، سعياً إلي التأثير في خصاله الشخصية ( قدراته ، أو سماته ، أو اتجاهاته ، أو اهتماماته ، أو قيمه ، أو أسلوب حياته ). والثاني يسعي إلي التأثير في السياق أو البيئة المحيطة به ، بدءاً من السياقات ذات التأثير المباشر في الفرد
( كالأسرة أو المدرسة أو المعمل ) ، وانتهاء بالسياقات التي يتفاعل في ظلها الأفراد ، وتؤثر في سلوكهم علي نحو غير مباشر. وسنعرض في المقال الراهن ، لنماذج ممثلة للاتجاه الأول ، علي أمل أن تتاح لنا الفرصة في مرات قادمة لعرض مزيد من هذه النماذج.
ومن أكثر الأساليب الإجائية شيوعاً ، والمصممة خصوصاً للتأثير في قدرات الأفراد العقلية ، ما يعرف باسم ” الجمع بين الأشتات ” ، والذي ابتكره عالم النفس الشهير ( وليم جوردون ). ويبني هذا الأسلوب علي افتراض أساسي ينظر بمقتضاه إلي الإنتاجات الإبداعية باعتبارها وليدة الربط بين فكرتين متباعدتين ظاهرياً ، يدمج بينهما الفرد قصراً فيصل إلي أفكار جديدة غير متوقعة. وبالتالي إذا ما درب الفرد علي ممارسة عادة الربط بين الأفكار المتباعدة ، فإن ” ماكينة العقل ” تصبح مهيئة لإنتاج أفضل الأفكار ، وأكثرها جدة. أما إذا تركت هذه الماكينة بدون ” تليين ” ، فإنها تتجمد ، وهو ما يسميه المتخصصون بالتصلب العقلي.
ولكن كيف يدرب الأفراد أنفسهم علي الجمع بين الأشتات ؟ الطرائق هنا متعددة ولكن أبسط هذه الطرائق هي أن يبحث الفرد – إذا ما واجهته إحدي المشكلات – عن الحلول الشبيهة التي قدمتها الطبيعة لحل المشكلات المناظرة للمشكلة محل اهتمامه.
فالتكنولوجي مثلاً حين يبحث عن حل لإحدي المشكلات التي تواجهه – كابتكار طائرة جديدة لها إمكانات خاصة – عليه أن يبحث عن كيف حلت الطبيعة هذه المشكلة ، وهنا قد يجد ضالته في دراسة أعضاء الحركة لدي الطيور والحشرات. فإذا ربط بين الظاهرتين فقد يصل إلي حلول جديدة لمشكلته ، علي نحو يشبه ما يفعله المخترعون وهم بصدد إلي مكتشفاتهم.
فالفكرة وراء تصميم عديد من الأجهزة التكنولوجية التي نستخدمها في حياتنا اليومية ما هي إلا تطوير للفكرة التي تعمل به أجهزة الكائن الحي الحسية والحركية ، فعدسة الكاميرا ، ” وسماعة ” التليفون ، وحدي المقص ، ومكونات الكمبيوتر ، ومضخة المياه ، وخلاط الأسمنت ، وذراع الحفار ، تشابه فكرة عملهم جميعاً الطريقة التي تعمل بها عين الإنسان ، واذنه ، وفمه ، ومخه وقلبه ومعدته ، وذراعه علي التوالي. والأمر نفسه نجده في التماثل بين طريقة عمل الرادار ، أو الطائرة ، وطريقة عمل أجهزة الحركة لدي الخفاش ، والطيور.
وليس المخترع وحده هو المستفيد من تأمل الطبيعة ، فكثير من الفنانين التشكيليين يعتبرون الطبيعة هي مصدر إلهامهم الأول ، ومنها يجمعون بين الأفكار المتباعدة في تكوين جديد. أما الشاعر ففي استخدامه للصور المجازية خير دليل علي محاولاته للجمع بين الأشتات ، فعندما يصف الشاعر وجه حبيبته بالقمر فهو يجمع علي نحو خيالي بين فكرتين متباعدتين ، حيث يربط بين الوجه الجميل والقمر المنير وهو يختلق ذلك اختلاقاً تحقيقاً لمتعة جمالية خاصة به.
وتكشف الشواهد السابقة عن العائد الإيجابي من الربط بين الأفكار المتباعدة ، لذا يسعي المتخصصون في علم النفس إلي وضع إجراءات عملية تفيد في تدريب الأفراد علي ممارسة هذه العادة العقلية ، التي يمكن من خلالها كسر أغلال التصلب العقلي. ومن بين هذه الإجراءات نعرض للمثال التالي.
لو أننا مثلاً تصدينا لابتكار غطاء جديد لزجاجه مياه غازية علي أمل أن يساعد هذا التطوير في الترويج لهذا المنتج ، هنا يبدأ الفرد بطرح السؤال الآتي علي نفسه : ما هي صور الإغلاق في الطبيعة ؟ فيذكر مثلاً : أوراق الورد ، شفاء الفم ، جفون العين ، صمام القلب ، أفوال الشمس .. إلخ. بعدئذ يبدأ في التفكير في عدد من الأغطية للزجاجة يستوحيها من مظاهر الاغلاق السابقة فيقترح مثلاً تصميم زجاجة بمجرد اقتراب شفاه الفم من فوهتها تفتح علي الفرد ( مثلما يحدث للوردة عندما تتفتح أوراقها مع شمس الصباح ) ، أو أن يبتكر غطاء يعمل بطريقة صمام القلب يسمح بمرور ماصة معينة من أعلي إلي أسفل ، ويغلق بمجرد رفعها ، فيحمي محتويات الزجاجة من التلوث. أو أن يصمم غطاء علي شكل شفاه الإنسان ويركب عليه ” لسان ” مصنوع من حلوي بطعم فاكهة معينة كالبرتقال مثلاً ، هذا اللسان يتحرك داخل زجاجة المياه الغازية فتتفاعل مادته الحلوة مع الصودا الخاصة بالمياه الغازية فيعطي نكهة معينة … إلخ. وعلي هذا كلما تذكر الفرد مثالاً عن الاغلاق زاد عدد الأفكار التي يمكن أن يقترحها لتطوير غطاء زجاجة المياه الغازية.
والأمر نفسه يمكن أن تمارسه الأم وهي تبحث عن طريقة جديدة لتخزين الأطعمة ( ببحثها عن صور التخرين في الطبيعة ) أو لكنس الأرض ( التنظيف ) ، أو لنشر الغسيل ( التجفيف ). فإذا أدارت حواراً مع ابنها الصغير علي النحو السابق ، مستغلة خيال الأطفال الخصب ، أمكنها أن تنمي قدراتها وقدرات أبنائها.
ورغم بساطة الأسلوب السابق إلا أن الفائدة منه لا يعرفها إلا المتخصص ، الذي يعي جيداً أن العقل البشري حينما يعمل يستوي لديه التفكير في ابتكار آلة جديدة ، والتفكير في صناعة نوع جديد من الحلوي. فالوظائف النفسية المطلوبة في الحالتين متشابهة إلي حد كبير.
والآن إذا سألك ابنك الصغير علي سبيل الدعابة : ما وجه الشبه بين الفيل والنملة ؟ هنا إذا لم تجد إجابة أو أكثر عن هذا السؤال ، عليك أن تعيد النظر في عاداتك العقلية ، وأن تبدأ فوراً في وضع جدول يومي يتضمن ممارسة التمارين الرياضية في الصباح ، وممارسة التمارين العقلية طوال اليوم.